العداء للسامية بدعة صهيونية

العداء للسامية بدعة صهيونية

misuse_of_anti_semitism_by_latuff2

بقلم: أيمن أبو الشعر

غسيل دماغ ثقافي عالمي ، هكذا يمكن رمزيا تعريف مصطلح العداء للسامية الذي تحول إلى شماعة وفزاعة بآن معا حيث تعلق عليه كل ردود الفعل على المواقف الانتقادية تجاه ممارسات إسرائيل المنافية لكل القيم والمعايير الإنسانية، وبنفس الوقت واستكمالا للموقف الأول يتسلل كجهاز رقابة داخلي ترهيبي يعشش في نفوس الكتاب والإعلاميين وخاصة في الغرب، بحيث يدرك هؤلاء الكتاب والشخصيات السياسية والاجتماعية بأن وجود أية ظلال انتقادية لإسرائيل في تصريحاتهم والتعبير عن آرائهم ستدفع إلى اتهام أصحابها بالعداء للسامية، وربما يصل الأمر إلى محاربتهم وشن حملة شعواء ضدهم قد تصل حد التسريح من العمل كما حدث مع آلان مينارغ مدير الإذاعة الفرنسية الدولية إثر إصداره كتابا تحت عنوان جدار شارون ينتقد فيه الممارسات الإسرائيلية التعسفية، فصنف على الفور بأنه معاد للسامية . وليست بعيدة عن الأذهان الحملة التشويهية التي شنتها مؤسسات إعلامية عديدة ضد المفكر الكبير روجيه غارودي الذي اتهم أيضا بمعاداة السامية . إن الأمر يصل أحيانا إلى تعميم مدهش حيث اتهمت الشعوب الأوربية عموما بالمعاداة للسامية على لسان شارون حين أظهرت استطلاعات الرأي العام سنة 2003 أن القسم الأكبر من الأوربيين يعتبرون أن إسرائيل تشكل أكبر تهديد على السلام في العالم .

لكن المثير في هذا الأمر أن من يستخدمون تهمة العداء للسامية اليوم ينسون بعض المعطيات الهامة، والتي تشكل مفارقات متعددة في جوهر وعناصر هذا الاستخدام المقصود، نتوقف عند بعض محاورها الساطعة. فالساميون كما هو معروف هم أبناء سام بن نوح عليه السلام وهؤلاء سكنوا الجزيرة العربية ومناطق سوريا الطبيعية في حين سكن الحاميون -أولاد حام بن نوح- في أفريقيا وسكن اليافثيون أبناء يافث في الشرق الأقصى والأدنى القديم وشكل معظمهم الشعوب الهندو أوربية، وبهذا المعنى تكمن الجذور القديمة فيما يسمى بالعداء للسامية – افتراضيا – لدى أبناء يافث وحام تجاه أبناء سام، أي المواقف ضد العرب أنفسهم باعتبارهم من أبناء سام، وهناك عبارة شعبية دارجة تقول أن اليهود هم أبناء عمومتنا، ولكن الأمر اختلف جذريا منذ القرن التاسع عشر حيث تقوقع مفهوم هذا المصطلح ليغدو رصدا للنفور من اليهود تحديدا .

المفارقة الثانية هي أن استخدام هذا المصطلح انتشر بالدرجة الرئيسية في الغرب في حين أن اليهود الذين تشتتوا في العالم لم يعودوا نتيجة ظروف عديدة يحملون نقاء الدم السامي، فقد اختلط دمهم على مر الأجيال مع سكان البلدان التي عاشوا فيها وتصاهروا عبر قرون مع أبنائها وتغيرت حتى أشكالهم ومظهرهم الخارجي عن الساميين الأصلاء – نسبيا – ناهيك عن أن يهود الفلاشة مثلا هم بوضوح من أبناء حام وليسوا ساميين، كذلك هو الحال بالنسبة لليهود من الهندو أوربيين أو العرق الأصفر فهم والحال كذلك يعودون في أصولهم إلى يافث .

الجانب الآخر الذي يؤكد ذلك هو ان ظهور مصطلح اللاسامية أو المعاداة للسامية جاء نتيجة واقع موضوعي من خلال التذمر من سيطرة اليهود على البورصات والمؤسسات المالية والمشاريع الحيوية في الغرب وخاصة نهاية القرن التاسع عشر ، حيث يشار إلى أن أول من استخدم هذا المصطلح هو الكاتب وليم مار عام 1879، وتعمقت هذه النزعة بدعم من بسمارك في البداية في ألمانيا ثم انتشرت في أوربا الأمر الذي ترافق أيضا مع انتشار الرعب من جرائم القتل الطقسي التي تنسب لليهود، وهو أمر لا يزال تحت إشارة استفهام، ثم لعب نشر بروتكولات حكماء صهيون إثر الحرب العالمية الأولى دورا كبيرا في الحذر من اليهود باعتبارهم جماعات تضمر الشر للآخرين وتسعى لتدمير المجتمعات للسيطرة على العالم فتكرست أجواء ما يسمى (باليهودفوبيا) أي الحذر والخوف من اليهود.

الجانب الأكثر إثارة في هذا السياق هو أن اليهود أنفسهم وخاصة قبل نشوء إسرائيل في إطار السعي لتحقيق الأهداف الصهيونية ساهموا بتعميق المعاداة للسامية على مبدأ المثل الشعبي (كسر يده ليشحد عليها). فقد سعى الفكر الصهيوني بشتى الوسائل لإبعاد اليهود عن الانتماء إلى الأوطان التي يعيشون فيها لتحويلهم إلى تجمعات تعمل في كل مكان لصالح إسرائيل، حتى أن الصهيوني الروسي أهارون جوردون طالب اليهود في الشتات بتشكيل ما يشبه المستعمرات الاحتياطية للكيان الصهيوني ، وهناك معطيات عديدة جدا تؤكد أن الفكر الصهيوني هو الذي أوجد وكرس مسألة العداء للسامية من خلال جعل اليهود (دياسبرا مؤقتة) ومشكوكا بأمرهم كمواطنين في أي بلد يعيشون فيه . وتصل الأمور في هذا المجال حدا مثيرا للدهشة فبعض قادة الصهيونية كانوا الأكثر هجوما على اليهود في الشتات والأكثر شتما لهم حتى أن الكاتب الصهيوني حاييم برينر وصف اليهود في الشتات بأنهم مرضى ومرابون وأقرب إلى الكلاب القذرة ، وأنهم وضيعون منذ فجر التاريخ ، كما يعتبر المفكر الصهيوني يعقوب كلاتزكين أن اليهود في الشتات شعب بلا جذور وحياتهم مزيفة وانهم جسم نشاز في المجتمعات التي يعيشون فيها حتى أنه دعا عام 1925 إلى دعم المنظمات المناهضة للسامية لا العكس ، والكثير من الكتاب الصهاينة شنوا حملات مذهلة ضد يهود الشتات ووصفوهم بأنهم طفيليون وقذرون وعبيد وبغايا وحياتهم حياة كلاب تثير الإشمئزاز مما كان يمكن أن يكون تهمة ساطعة للعداء للسامية لو أنها جاءت على لسان غيرهم ، لكنها كانت تمرر لأن لها أهدافا محددة، وهي دفعهم إلى الرحيل إلى إسرائيل، ولم يكن صدفة أن يوجه شارون نداءه إلى يهود فرنسا قبل زيارته لها بان يعودوا إلى إسرائيل لأنهم سيتعرضون دائما حسب قوله إلى اضطهاد المعادين للسامية ، ووصل الأمر حدود مصادرة أي رأي مخالف للتوجهات الصهيونية، وحتى أي تشكيك بمسألة الهولوكوست (المحرقة) التي بات عدم الإيمان بصحتها يدخل في جوهر المعاداة للسامية ، كما حدث مع الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لأن هذا التشكيك يضعضع استغلال الصهيونية لهذه الأطروحة لاستدرار العطف والتعويضات.

وهكذا يتوضح أن فكرة العداء للسامية خدمت إسرائيل والصهيونية التي أوجدتها بهدف منع اليهود من الانتماء للوطن الذي يعيشون فيه ودفعهم إلى الرحيل إلى إسرائيل ، وقد باتت في جوهرها اليوم تهمة توجه ضد أي صوت يوجه انتقادا لإسرائيل وممارساتها اللاإنسانية .

وعلى مبدأ إذا لم تستح فافعل ماتشاء يتابع حملة سيف الاتهام بالعداء للسامية نهجهم المرسوم وفق غايات محددة ماكرة في مجافاة الحقيقة وسحقها وتشويه من يلهج بها فتتلطخ قلوبهم وضمائرهم بالقذارات متسترين وراء ياقاتهم البيضاء ، وهم من ينطبق عليهم قول ميخائيل نعيمة : عجبت لمن يغسل وجهه عدة مرات في النهار ولا يغسل قلبه ولو لمرة واحدة في السنة.