بقلم: أيمن أبو الشعر
رغم الامتاع والإثارة اللذين يميزان بوضوح أعمال الكاتب التشيكي المبدع كارل تشابك الذي اشتهر بكتاباته في مجال الخيال العلمي، إلا أن الصياغة التي اعتمدها فيما نتناوله اليوم يتواري خلفها تحليل عميق لنفسية الإنسان والمجتمعات، وخاصة في الظروف الاستثنائية التي تكشف الجوهر الغافي وراء الحياة اليومية الاعتيادية، بحيث تستنهض الإثارة انتباهك وتمتعك المفاجآت وربط الأحداث في السياق فتغدو أنت كوتر مشدود يعزف عليه المؤلف الأفكار التي يود غمسها في روحك ، وتتحول إلى مجسات يصعب أن يزيلها الزمن .
ورغم مضي أكثر من ربع قرن على قراءتي لهذه الرواية الرائعة إلا أن بصماتها ما تزال موغلة في الذائقة (حرب مع السمندر) .المثير في هذا العمل أن الكاتب يترك لك مساحة كبرى لتسقط حالة سمندره على ما تشاء ومن تشاء بقدر ما ترتبط بعض الجوانب التي يتناولها ببعض معطيات الواقع المعاش . بحيث تقول : أن البشرية تعاني حاليا من ظهور بوادر هذا السمندر ولو بتنويعات مختلفة .سمندرات – عظاءات – تسعى للسيطرة على مصير هذه البشرية وذلك بعيدا عن عظاءات الأساطير اليونانية الخيالية بأفاعي شعرها. إن عظاءات تشابك في إطار الخيال العلمي قريبة جدا من الواقع حتى لتكاد تتخيل أحيانا أن الحديث يجري عن وقائع حقيقية تماما وذلك من خلال السياق الذي جعله المؤلف قريبا من النمط التوثيقي والمعطيات العلمية حتى بيولوجيا.
باختصار، تحدث (تشابك) عن كائن بحري يشبه العظاءة له قدرة عجيبة على التكيف والتطور، وتتنامى الأحداث بعد اكتشافه -عن طريق الصدفة- بحيث يتم تدريبه أولا على صيد اللؤلؤ ومن ثم على أعمال الإنشاءات البحرية وتتعمق صلته بالإنسان الذي يسعى عبر شركاته للاستفادة منه حتى الحد الأقصى . وبما أنه يتطور بسرعة مذهلة فإنه سرعان ما يبدأ بتعلم اللغة ويعمق من خبرته التي يأخذها عن الإنسان إبان استغلاله له ويوسع من مهاراته بدأب وذكاء، إلى أن يبدأ بمنافسة الإنسان والسعي للسيطرة على العالم.
ما يهمني في هذا التناول هو تركيز كارل تشابك على طريقة تصرف الدول وخاصة الكبرى حرصا على مصالحها في مختلف الظروف الناشئة، وتركيزه على مكنون الطبع البشري في الظروف الاستثنائية ، فعندما يغدو السمندر قوة عمل منافسة لا يحتاج سوى إلى الطعام وبعض الأدوات تتسابق الدول والشركات لبناء أحواض هائلة له وتمنحه الوعود بمناطق وسواحل جديدة حتى تلك التي لا تملكها أساسا (..؟؟!!) وفق النهج البلفوري: أعط ما لاتملك لمن لا يستحق..ولا تلبث بعد سطوع قدراته في الأعمال البحرية أن تستخدمه في قواتها المسلحة وصراعاتها مع الدول الأخرى للسيطرة على المياه ومناطق النفوذ مما يشعل حروبا ويستدعي تدخلات دولية تهتز معها دعائم الاستقرار ويبدأ العالم المتحضر بالمراوغات والتشتت وخرق الاتفاقيات والمعاهدات .
ولعل أهم نقطة مرت سراعا في السياق وهي جوهرية جدا أن السمندر كائن بلا عاطفة، بلا مشاعر، لا يعرف المزاح او اللعب، ويستسخف حتى ظاهرة الضحك أو المرح، وهو يسعى لتحقيق ذاته المتطورة باضطراد وفق المبدأ الميكيافيللي، والحصول على ما يريد وتسخيره خطوة خطوة حتى ضد من ساعده وحتى ضد من تبناه وقدم له السلاح والخبرة والمتفجرات ، ويعمل انطلاقا من تكريس الأمر الواقع لتمرير هذه المصالح بما يشبه الانتدابات والوصايات .
ويصل كارل تشابك إلى النقطة الانعطافية الحاسمة فالسمندر الذي تكاثر وانتشر تأثيره بشكل مرعب لم تعد تكفيه أحواضه (ومستوطناته) وبات يطالب البشرية بأن تتخلى له عن السواحل والأرخبيلات ، بل وبات يلمح إلى أنه آجلا أم عاجلا سيسيطر على الكوكب الأرضي ويضع شروطه لكي لا يتم حل (القضية) بشكل حاسم ، وإنما لكي يتم تنفيذ مآربه تدريجيا تحت اسم اتفاقيات ومبادئ وإعلانات حسن نية..
ويحمل تشابك على المجتمعات الغربية – بالدرجة الرئيسية – وعلى البشرية عموما لأنها لا تتوخى سوى مصالحها المنفردة حتى في ظروف استثنائية تهدد العالم بأسره ، تلك البشرية التي تغاضت وتهادنت بل وساعدت على تكريس ظاهرة السمندر طمعا بالأرباح وتوسيع مناطق النفوذ حتى إبان وجود تحذيرات مبكرة عن (خنجر السمندر في ظهر العالم). في هذا المجال يوغل (تشابك) في إظهار هذه المفارقات مبرزا تمسك الدول ذات المصالح الكبرى في العالم بمواقف آنية لكي لا تتيح للمنافسين بالحصول على أولوية أو تفوق حتى وإن كان لدرء الخطر عن البشرية ، فحين تبدأ الحرب مع السمندر وتغرق أسرابها أساطيل بريطانيا التي تدرك أن المواجهة يجب أن تكون جوا وعليها بناء مائة ألف طائرة حربية تحتج الدول الأخرى بأن ذلك سيخل بميزان القوى ..!! ويكرس كارل تشابك سخريته من المجتمع البشري غير العادل، ذاك المجتمع الذي يتناحر ويتنافر مكرسا الغنى والفقر والمثقف وغير المثقف العبد والحر والحاكم والمحكوم، مشددا على أن القوانين والتعهدات بعدم إبادة الآخرين – دون الالتزام بها – ماهي إلا قشرة سخيفة سرعان ما تتفسخ أمام معطيات الواقع ،وأن البشرية عبر آلاف السنين كرست جوهرها في تعميق التناقضات بين الشعوب وفشلت في جعل بني جنسها وحدة متكاملة سعيدة، ويصل إلى تقريع حاد لمن جنى على نفسه ودفع بالطبيعة لإيجاد البديل وهو السمندر الذي يحافظ بقوة على وحدة جنسه .. المهم في الأمر أن الكاتب يوغل في حقيقة التناحرات القومية والعرقية وصراع المصالح التي تلعب دورا محوريا في تكريس تفوق السمندر بما في ذلك عبر المؤتمرات العالمية والمنظمات الدولية مستقرئا أجواء القادم بعد عشرات السنين ذاك أن هذا العمل كتب – حسب ذاكرتي نهاية الخمسينات – وبعض أجوائه وظلاله تظهر اليوم في كثير من المؤتمرات ومعطيات المنظمات الدولية وفق إسقاطات يدركها القارئ بنفسه، وخاصة إن حاول استقراء ما يمكن أن يكون بعد خمسين عاما أخرى .. إذ يصل الكاتب إلى النقطة المحورية الأهم وهي أن السمندر بدأ بوضوح يعلن عن خططه للإستيلاء على العالم ومقايضة البشر بوجودهم – هكذا – حيث يوجه رئيس السمندر نداء إلى البشر يؤكد فيه أن – قومه – لا يريدون الحرب مع الجنس البشري ويعرضون علي البشر التفاوض ويقدمون ما هو أكبر من ذلك بأريحية : يقدمون أو يمنون بالسلام تحت شعار – الأرض مقابل الذهب واللالئ – ثم يمضي أبعد من ذلك بكثير حين يصبح السمندر قوة ضاربة هائلة ، فيطرح عن طريق المفاوضات رغبة السمندر في إغراق اليابسة لتحويلها إلى مستعمرات ومستوطنات أرخبيلية تكفي لتكاثر السمندر ونشاطاته، ويقدم (الفرصة الذهبية للبشرية): الآن أفضل لكم من الوضع في المستقبل لأنكم ستحصلون على شيء ما لقاء فنائكم التدريجي ..أما هدف السمندر فلا رجعة عنه !! . تتفاوت المواقف وتتباين لكنها عند كارل تشابك تلتقي في أمر محوري هو أن كل دولة وشعب وسلطة تفكر في مصالحها حتى الواهمة وكأنها بمنأى عن هذه الحرب وهذه النتائج ، حتى أن حوارا شيقا بين أحد أبطال الرواية السيد (بوفوندرا) وابنه يوضح أن المجتمعات والدول كالأفراد في صياغة الفجيعة وتحملها تمسكا بإحساس مؤقت ساذج وهو أن الحبل الآن ليس حول عنقي.إذن لا علاقة لي بما يجري، فالمياه البحرية التي يوسعها السمندر حسب سياق الرواية وصلت إلى دريزدن والسيد بوفوندرا يعبر عن فرحته لأن ألمانيا بدأت تزول عن الأرض، والنقمة باتت نعمة لأن بلاده ليست لها سواحل بحرية يمكن أن يتغلغل منها السمندر أما الألمان فهذه مشكلتهم..!!
ملاحظة أخيرة: يبدو أن كارل تشابك أرهق أو لم يشأ تقديم حل وسط في سياق عمله الإبداعي الذي وضع فيه البشرية كلها أمام امتحان الفناء نتيجة ابتعادها عن العدالة والتآخي، فيوضح في حوار خارجي مع الكاتب نفسه أن الذين يساهمون في فناء الجنس البشري هم أصحاب البنوك والشركات ورؤساء الدول الذين يمولون ويدعمون السمندر، ويوحي بأن لا سبيل للقضاء على السمندر وإنقاذ البشرية سوى في نقل بعض سموم البشرية وطباعها إلى السمندر بحيث يقاتل نوعه، مشيرا إلى أن نهر دجلة غير بعيد عن بغداد يمكن أن يكون مكان انفجار المعركة الكبرى لاحقا حيث يقتل السمندر المحلي ضابطين من سمندر(الأطلنطي) فيغدو الشعار: إما نحن وإما هم ..!! كانت هذه الإشارة الرؤيوية بغض النظر عن جزئياتها التي قد نتحفظ عليها.. قبل نحو من خمسين عاما!!