حوار مع أيتماتوف قبل ربع قرن

حوار مع أيتماتوف قبل ربع قرن

aitmatof1

بقلم: أيمن أبو شعر

من التقاليد الإبداعية الجميلة الغنية التي استمرت في روسيا حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، لقاء جماهيري متلفز مع كاتب أو شاعر أو فنان او شخصية متميزة لها تأثيرها في الوعي الاجتماعي حيث يعتمد هذا اللقاء المفتوح على ما يطرحه الجمهور من أسئلة على المبدع والإجابات التي تعكس في الواقع حضور الشخصية ومدى تمثلها لأطروحاتها الفنية وأبطالها .

وتلفت النظر في أحد هذه اللقاءات النوعية المتلفزة مع الكاتب العالمي جنكيز أيتماتوف سرعة بديهته وكونه يتحدث ويجيب – دون تظاهر وافتعال واستعراض عضلات ثقافية – عن هذه الأسئلة المتلاحقة التي ذكرتني بأسئلة كنت قد طرحتها بنفسي على هذا الكاتب الكبير .

جمعتني بجنكيز إيتماتوف- وهو علم غني عني التعريف- لقاءات معدودة لكنها كانت كافية بالنسبة لي لالتقاط اهم جوانب شخصيته كإنسان ولعل أهم ما يمكن تسجيله في هذا الإطار هو أن أيتماتوف ديمقراطي الروح ومتواضع بقدر ما هو شهير جدا على مستوى العالم حيث ترجمت رواياته إلى معظم اللغات العالمية ، وحين طلبت منه لقاء مطولا لحوار متعدد الأغراض دعاني إلى مكان إقامته المؤقتة في مؤسسة السينما السوفييتية في موسكو ، واعتذر منذ البداية عن ظروف إقامته التي تشبه دور الطلبة مبينا أن ذلك أفضل للعمل وواعدا بأنه سيجيب عن كل الأسئلة أيا كانت ولن يسكت حتى أمل ..!! وأجبته بأنني لا أحمل أسئلة محرجة جدا وأن لقاء كهذا لا يمكن أن يدفع إلى الملل .

هذا الحوار الذي استمر ساعات طوالا نشر في الموقف الأدبي كاملا ونشر ملخصا – موسعا عنه – في (تشرين) في 3-10- 1985 – لكني أود التوقف عند بعض المعطيات والتقييمات والآراء التي لها مدلولها عندما تأتي من كاتب كجنكيز أيتماتوف والذي عاد فأكد عليها في اللقاء التلفزيوني الجماهيري الذي أشرت إليه في البداية بعد مرور أكثر من عشرين سنة على حوارنا ذاك مما يؤكد أنه لم يكن يعطي تقييماته وآراءه كنجم يتلاعب مع الألفاظ لكي يرضي الجميع كما يحدث حاليا في كثير من اللقاءات النجومية التلفزيوينية .

أتوقف عند مجسات محددة أولها مدى انعكاس حياة الكاتب وتجاربه في نتاجه الإبداعي ومدى تحول عمله إلى تسجيلي مبطن أو مباشر ومدى تجسيد أيتماتوف بنفس الوقت لمسار البطل الإيجابي في وقت كان لروجيه غارودي تأثير كبير في مسألة الواقعية بلا ضفاف حيث تمحور سؤالي الأول حول انعكاس تجاربه الخاصة في السفينة البيضاء ، وما كان يهمني هو نهاية الرواية بموت الطفل – الأمل المعذب بأحلامه وكونها حالة تعويضية تقترب من فرويد – حيث أوضح أيتماتوف منذ ذاك الزمن وقبل انهيار الاتحاد السوفييتي بأن الواقعية الاشتراكية ليست إيقونة وليست وصفة دوغمائية وإلا لانقطع التطور وأقرينا بأن ما يمكن أن يقال قد قيل مركزا على أن موت الطفل لا يعني موت أحلامه، ومشددا على أن الكاتب لا يجوز أن يتدخل بحيث يدفع إلا انتصار الطفل فهذا سيكون مجافيا للواقع وأن استدعاء الطفل لصديقه الشاب القوي المبدأي هو دعوة للدفاع عن النقاء والخير والجمال وتجلي العطش للعدالة ، وحين انكسر هذا التوازن لم يكن للطفل إمكانية الاستمرار وبهذا المعنى كما يرى أيتماتوف فإن العمل يتوجه نحو جعل التوازن أساسا ليس بين الحلم والواقع بل في علاقات الواقع نفسها وهذا هو الهدف .

ومن بين أهم أطروحات هذا الحوار الذي نشرته تشرين قبل حوالي ربع قرن هو مسألة رسم بطل إيجابي وفعال في ظروف سلبية قاهرة ومشتتة وبالتالي مدى الصدق الفني في مثل هذه الظروف الاستثنائية ، حيث يرى أيتماتوف أن الصدق الفني يرتبط بتوجه شمولي منبثق عن الواقع المعاش لا عن وصفة مسبقة ،وأن رسم بطل إيجابي في هذه الظروف لا يجافي الصدق الفني لأن المجتمع لا يكون مهزوما وممزقا بشكل مطلق ونهائي طالما يحمل نقيضه في داخله ، وفي مثل هذه الحالة يبدو البطل متميزا عن الجو العام مذكرا بأن كل معطيات المجتمع البطريركي المتخلف لم يمنع من ظهور (جميلة) (بطلة قصة قديمة لأيتماتوف تحمل اسمها)، وأن هذا البطل ينبثق فردا أو جماعة عن الحياة الواقعية ، ويركز هنا على جوهر بالغ الأهمية وهو أن الكتاب عموما لم يخترعوا هؤلاء الأبطال الإيجابيين بل اكتشفوهم من بين معطيات الواقع المعاش وهم موجودون فعلا .

أخيرا أتوقف قليلا عند آراء هذا الكاتب العملاق في الكتابة الإبداعية ذات الظلال السياسية ،ومودة إدانة الأعمال التي تتناول المواضيع السياسية باعتبارها مبتذلة مباشرية سخيفة ، حيث أوضح أيتماوتوف بأن هذا الطرح بحد ذاته سياسي ووظيفي ولا يمكن المهادنة مع هذه الآراء مهما ارتدت من أقنعة تقدمية براقة شكليا، ويشدد أيتماتوف انطلاقا من تجربته على أن إبعاد الأدب عن السياسة هو مجرد افتعال ، وأن ذلك تجلى في بيانات التيارات الأدبية بداية القرن العشرين (يقصد تشظيات المودرنيزمية) لكن التجربة العملية الخلاقة تثبت عكس هذا التوجه، ممثلا على ذلك بأن الأديب الذي ينغمس في ضبابيته وذاتيته في وقت يعيش فيه مجتمعه في حومة الأخطار والحصار لايبتعد عن السياسة بل يبتعد عن هموم وطنه ، وأن دخوله في لعبة البهلوانية اللغوية والتألق الموهموم بالابتعاد عن هذه المخاطر تدل بسطوع عن توجهاته العدمية والشكلية ، وبالتالي تدل على جوهره السياسي ولا تحقق ذاك الهدف مهما حاول الاستعلاء على السياسة لأن الأدب – حسب أيتماتوف – يرتقي ويكون فاعلا حين يصل إلى إمكانية التأثير سياسيا وذلك من خلال تفاعله مع هموم الجماعة .الأهم في طرح هذا الكاتب العالمي عبر الحوار الذي نشرته تشرين قبل حوالي ربع قرن من الزمن هو قوله: أن علينا أن نضع القضية بشكل آخر، هناك سياسة تخريبية عدوانية شريرة وعلى الضفة الأخرى سياسة تقدمية هدفها سعادة الإنسانية وأن على المبدع أن يختار، وعندها سيكون دون أدنى شك في أحد الخندقين.