بقلم: أيمن أبو الشعر
تسود – حتى الآن – تصورات لا تخلو من مصداقية نسبية تتلخص في أن التذوق الجمالي أمر يعود إلى الفطرة التي تصقلها الثقافة وسعة الإطلاع ولا يأتي التذوق الجمالي عن طريق الاكتساب. ويذهب – مغالون – إلى أن ارتقاء بعض الشخصيات في الرتب والمناصب يجعلهم أكثر ابتعادا عن إمكانية الاهتمام بالقيمة الجمالية، ويدفعهم إلى الشعور أحيانا بالغربة تماما عما يراه الآخرون رائعا سواء في مجال الفن التشكيلي أو الموسيقي او الكتابة الإبداعية، وربما يدفعهم انشغالهم المستمر بمجالات اختصاصاتهم البعيدة كل البعد عن الأجواء الثقافية والجمالية إلى الغوص في جهل مؤلم ثقافيا وجماليا. ومع ذلك هناك – حسب صداقاتي المتنوعة ـ عدد غير قليل من الشخصيات المسؤولة الكبيرة والرتب الكبيرة التي تمتاز بالفعل بتذوق جمالي عال ومتابعة ثقافية مشهودة والسؤال هل هم الاستثناء أم العكس؟ ومع ذلك يبدو لي أنني وقعت نتيجة حرصي على اللباقة بمطب الدفاع عن هؤلاء، وإيجاد مبررات موضوعية لهم والحقيقة قد تكون أعمق غورا، إذن فلأدع التقييم والتفسير والتبرير ولوجا بما أود الحديث عنه اليوم وهو حادثة طريفة مؤلمة كنت شاهدا مباشرا على مفارقاتها.
حدث ذلك أواسط الثمانينات حيث جاء إلى موسكو الصديق القاص الكبير نصر الدين البحرة لإجراء عملية جراحية في عينيه وكان لي صديق مشترك معه وهو مسؤول عسكري كبير برتبة عالية وكنت أقول له ما زحا أنت على ما يبدو نشاز في هذه الأوساط، إذ كان هذا الصديق شاعرا رقيقا ومتابعا ثقافيا وذواقة متميزا .. ولكن ما حدث آنذاك يدفع إلى التأمل بالجانب الأول، حيث دعانا هذا الصديق إلى حفل عشاء ضم أصدقاء غير قليلين وبينهم شخصية مرموقة أقصد في مرتبتها ورتبتها، ومنذ الدقائق الأولى بدا متململا من الأحاديث ذات الظلال الثقافية ولكنه حاول على مضض أن يتظاهر بالتفاعل الذي يرسمه على وجهه كنقش على الحجر .. وخلال السهرة كما هو العادة حين يكون هناك كتاب وشعراء كان لا بد من إلقاء بعض القصائد وكنت – وما زلت – مولعا إلى حد كبير جدا بالشاعر الرائع بدوي الجبل وأعلم أن الصديق نصر الدين يشاركني هذا الشعور فطلبت منه إن يلقي قصيدة اللهب القدسي التي كنت قد سمعته مرارا يؤديها بألق غير عادي يقترب من الطقس الجمالي والحضرة الصوفية .. ولم يمانع أو يتأخر وراح يلقي القصيدة بكل جوارحه إلى درجة أنه كان أحيانا يغمض عينيه ويدخل في حومة تقمص الرؤى التي كانت شلالا من الصور الرائعة معيدا بعض الأبيات أكثر من مرة وكأنه يشك في أن روعتها قد وصلت تماما للمتلقين ..
كل شيء كان رائعا وجميلا: الإنسجام والتفاعل والصمت الجليل إلى أن انتهى الصديق نصر الدين قراءته .. فصفق الجميع ما عدا شخص واحد هو ذاك الضيف (الكبير) الذي وقف فجأة وراح يهز بيده وهو يردد متهودجا ياعصفوري ياعصفور ..(وهي عبارة معروفة لإنسان كان به لوثة يطوف في شوارع دمشق وهو يحمل عصفورا من السكر ويوجه إليه عباراته الإيقاعية الواعية وغير الواعية وكان الناس يسمونه مجنون العصفور)
أصيب الجميع بصدمة كبيرة واحتار المضيف حتى أنه بدأ يتعرق، كيف سيحل المأزق؟ لكن نصر الدين أصيب بالذهول تماما، قلت له محاولا أن أخفف عنه الوقع الصاعق عليه: لا تحزن ياصديقي فبضدها تتبين الأشياء والشخصيات أيضا .. لم تجد لا كلماتي ولا المداخلات التي حاولت تلطيف الجو أي صدى لدى نصر الدين البحرة الذي اتسعت حدقتا عينيه وفتح فمه آخذا شهيقا عميقا وهو يحملق في اللامكان وكأنه خرج من دائرة الحاضرين تماما.. لم يكن تأثر نصر الدين عابرا حتى أنه بدا وهو المتحدث الممتع بدا كشهرزاد عندما تسكت عن الكلام المباح. صمت نصر الدين نهائيا .. نهائيا ولعدة أيام حتى انه في اليوم التالي لم يتمكن من حضور مسرح البلوشوي رغم أن حضور عروض البولشوي تعد من احلام المثقفين والسياح عموما..
الأمر دون شك يتعلق بحادثة فردية ولكن لا بد من ذكرها لإظهار مفارقات لاحقة، فمنذ بضعة سنوات كنت ألقي قصائدي في مدرج مكتبة الأسد فجاءني من بين الحضور بعد الأمسية شخص غدا صديقا حميما وكان طبيبا وأيضا ضابطا كبيرا في سلك الشرطة وقال لي: عذرا ولكن يبدو لي أنك تعاني من الغدة الدرقية والأمر على الأرجح يحتاج إلى عملية جراحية .. فوجئت بأنه كان يحفظ قصائد بكاملها .. وبالفعل بدا بعد الفوحوصات أن وضعي يحتاج إلى تدخل جراحي .. فاجأني بعد ذلك أن الذي أنقذني جراحيا من هذا الطارئ الخطير بحماس وروح جمالية كان ضابطا برتبة لواء وبعد العملية زارني في مزرعتي المتواضعة وكان الصديق نصر الدين موجودا وألقى اللهب القدسي أيضا تلبية لإحراجي له وكان هذا الضابط الكبير يتمايل وهو يهتف بين حين وآخر .. ألله .. والشيء بالشيء يذكر .
لقد وصلت إلى قناعة شبه راسخة بأن المبدع الرائع جماليا ليس فقط من يكتب شاعرا كان أم قاصا أم كاتبا بل وأيضا ذاك الذي يتذوق الجمال فليس كل طائر يغرد بالضرورة كالبلبل ولكن جميع من يطير ألقا يشارك حتى البلابل تحليقا.