بقلم : أيمن أبو الشعر
كنت أستمع مضطرا وأنا أجلس إلى كرسي الحلاقة حكاية تفرعت عن قصص ذات فحوى تفاخري واحد، بدأت بحديث من شاب عبر الموبايل يغدق الغزل الرخيص المجاني والفج لفتاة لا تعرف أن حديثها معه ينتقل إلى العديد من الأشخاص حوله عبر تكراره لكلماتها التي توحي بولعها به أو جعل الصوت مسموعا أحيانا، ومن ثم انتقل الشاب (الرهيب) للاتصال بفتاة ثانية، ومن ثم أخرى حتى قال له زميله: أنت بحق كازانوفا..فانتفخت أوداجه وهو يرسل نظراته الخفية ليتأكد من أن الجميع يرمقونه بإعجاب لمآثره العشقية، ناهيك عن أن ذلك الإيحاء بالبطولات الغرامية تم خلال دقائق قليلة فقط وقال لزميله وكأنه يتواضع وأنت أيضا دون جوان حقيقي هل تظن أننا لا نعرف ؟.
لفت نظره كما يبدو أنني كنت أبتسم وشعر أن وراء هذه الابتسامة ظلال سخرية ، فسارع إلى التأكيد لصديقه وهو يقصد إسماع الآخرين بأنه في الواقع يتجاهل الكثيرات وهن يتابعنه ويرغبن في إقامة علاقة معه ..!! وأنه غدا كازانوفا ليس برغبته بل هكذا شاءت الأمور .
سألته بعد أن أخفيت ابتسامتي مبديا الجدية : ومن هو كازانوفا فأجاب بثقة: إنه ممثل أجنبي يهرب من النساء لكثرة المعجبات به ..
ليست هذه الحادثة عابرة في عالمنا المعاصر وخاصة في مجتمعاتنا العربية رغم أنها في الواقع حالة مأساوية في منتهاها لا تقتصر على المجتمعات العربية أو المشرقية وإن كان عدد كبير من الأغنياء العرب يتوجهون إلى أوربا استجماما أو للبيزنس ويكون في برامجهم مسبقا أن يعايشوا هذه التجارب ليس فقط نتيجة جوع جنسي بل ولكي ينقلوا فيما بعد روائع مغامراتهم مع النساء بعد إضافة الكثير من البهارات باعتبارهم كازانوفات معاصرة.
والحقيقة أن كازانوفا، ودون جوان نموذجان يستحقان التأمل ليس فقط من زاوية النجاحات العشقية فدون جوان وهو شخصية خيالية تشير بعض المصادر إلى أن أحد القساوسة ابتكره في القرن السابع عشر ليفضح هذا الجانب اللاأخلاقي وفق تصوراته، وبالتالي ينهي قصته بحيث يبدو مدلولان الأول رمزي يكشف جوهره المتحجر فاقد الشعور حيث تؤول به الأمور إلى محاورة تمثال حجري سرعان ما تدب الروح فيه ويقوده إلى العقاب الذي يستحقه في الجحيم وهو المدلول الثاني الوعظي عمليا. ومع ذلك يرى ألبير كامو في دونجوان حالة بحث من نوع خاص عن الحرية، وأنه نموذج من نماذج اللاجدوى في لهاثه المستمر عن مفقود في حضوره، وحالة لن تتحقق فما يعيشه أي ليس الحب الأخير المنتظر بل هو الحب الذي جربه قبلا ويعيشه مرة أخرى وأخرى، وبالتالي فهو وليس مجرد مفتون بقدرته على معابثة النساء بل هو إشكالية حقيقية لأنه في نهاية المطاف اختار أن يكون (لاشيئا).
ولكن كازانوفا شخصية حقيقية ولد عام 1725 وتوفي عام 1798 ورغم أنه اشتهر بالدرجة الرئيسية من خلال مذكراته التي تتحدث عن مغامراته مع أكثر من مائة وعشرين امرأة من مختلف الجنسيات والبلدان – حتى سمي بقاهر النساء والعاشق الكوسموبوليتي – إلا أنه في الحقيقة موسوعة حياتية ثرة متنوعة الجوانب ناهيك عن الظروف الإنسانية التي ساهمت باندفاعه نحو هذه المغامرات. إذ تشير معطيات عديدة عن سيرته الحياتية إلى طفولة معذبة شقية من الجانب العاطفي، فقد تخلى عنه أبواه اللذان يعملان في التمثيل وهما على قيد الحياة، وكفلته جدته ليعيش محروما من حنانهما، وبالتالي فإن ظهور نزعة التعددية في العلاقات مع الجنس الآخر في شبابه وفق التحليل النفسي الفرويدي هو السعي الخفي للانتقام من ذاك الإهمال .
الجانب الثاني هو أن جان- دي سيغالت جياكومو – كازانوفا لم يكن مجرد زير نساء لقد كان شاعرا وكاتبا مسرحيا ومتفوقا في دراسته حيث حصل على دراسة عالية في القانون وشؤون الحروب الأهلية وهو دون الثامنة عشرة من عمره ، وسيرته تدل بوضوح على نبوغ في قدراته على الجدل والحوار حتى أنه اعتمد لبعض المهمات الصعبة ، وكان يعتبر نفسه فيلسوفا ، وقدم مداخلات عديدة في تفنيد أراء جان جاك روسو ناهيك عن انه عكس في الواقع حتى من خلال أشهر مؤلفاته وهي مذكرات حياته صورة عن أجواء المجتمعات الأوربية في القرن الثامن عشر موغلا ليس في الطباع وحسب بل وكاشفا نمط تلك الحياة وخاصة لدى طبقة النبلاء وكبار المسؤولين وبلاطات الأمراء وانتشار الدسائس والمكائد والمؤامرات. بهذا المعنى لا يجوز اختزال كازانوفا في بوتقة عابث بالحب وقاهر للنساء، وحبذا لو حاول الجيل الشاب تقليده من هذه الزاوايا، فمسألة التباهي بوجود علاقات نسائية عديدة لا تدهش أحدا وخاصة في هذا العصر، وهو أمر مرهون من جهة إما بعقدة نقص في الذكورة وبالتالي محاولة تغطية عقدة النقص بهذه التعددية أو ادعائها، أو أنه واقع موجود في كل آن ومكان ولو بنسب متفاوتة ولا يعني أي تفوق على الأقران ، وقد قدم لنا الأدباء والفانون والشعراء الكثير من هذه الأقاصيص منذ القدم كنوع من الافتخار بالتميز حتى أن امرؤ القيس لا يكتفي في معلقته بأن يظهر كثرة علاقاته بل وكيف كان يلهي الأم عن وليدها . ولكنه امرؤ القيس الشاعر الكبير وصاحب قضية عبر البلاد سعيا لإنجازها والحصول على دعم لاستعادة ملكه ، وليس مجرد شاب عاطل عن العمل شبه أمي ثقافيا يزوق شعره وهندامه لإغواء الفتيات .
بقي أمر هام وهو أن الذين يجعلون من التعددية العاطفية – الجنسية – هدفهم في الحياة يدخلون في مأساة إنسانية بالنسبة لهم قبل غيرهم مما يمكن أن نسميه مأساة كازانوفا الذي وصل في نهاية المطاف إلى مرحلة عدم الإحساس بالرغبة بالنساء وبات ينفر منهن وتوجهت مشاعره في إحدى التناولات الفنية لسيرته بأن بات يعشق دمية آلية يجد المتعة الحقيقية بمراقصتها وعشقها، وبدا له أنها الوحيدة التي يمكن أن يركن إليها وتستحق حبه. كما أن سهولة الحصول على العلاقات الغرامية في كل آن باتت تعتبر مرضا يجعل صاحبه عنينا لا لأسباب جسدية بل لأسباب نفسية بحيث يضطر إلى التخلي عن كل هذه العلاقات السهلة والبحث عن المغامرة أو أن تكون العلاقة محفوفة بالمخاطر كما في كازانوفا 70 لماريو مونيسيللي إن لم تخني الذاكرة ومع ذلك فإن ذاك البطل لم يكن يتبجح بعلاقاته النسائية، بل كان بالفعل يعاني من عقدة كازانوفا المدمرة في أطر معاصرة بالنسبة لكازانوفا المعاصر.