بقلم: أيمن أبو الشعر
تناولت في مقالة سابقة في (تشرين) بشكل مكثف بعض نشاطات وتوجهات ما يسمى بالمسيحية الصهيونية مقترحا استخدام مصطلح بديل لا يسيء إلى مشاعر المسيحيين، وهو مصطلح (المتصهينون الدخلاء على المسيحية)، لأن هذا التيار حركة سياسية تنطلق من توافق مصالح الإدارة الأمريكية مع مصالح الصهيونية المتمثلة في إسرائيل، وأتوقف اليوم عند أخطر أطروحات هذه التوجهات المغرضة في محاولتها لتكريس ثقافة الحرب وتصويرها تنفيذا لرغبات إلهية ، أي محاولة رصد مسار التاريخ في التوجهات السياسية لهذا التيار كحتمية قدرية مقدسة.
من المعروف أن منظري هذه الحركة يعتمدون كإرهاص ثقافي بالدرجة الرئيسية على كتاب مارتن لوثر (يسوع المسيح ولد يهوديا)* ، وأن المساعدة في تحقيق النبوءة عمل فاضل بحد ذاته حتى أن عضو البرلمان البريطاني هنري فينش طالب الحكومة عام 1615 -انطلاقا من إيمانه بتيار الألفية – مساعدة اليهود للرحيل إلى فلسطين لأنهم كفيلون بإعمار الأرض كلها – حسب تصوراته المعتقدية– ..!!
الملفت للنظر وهو جوهر ما نرمي إليه هنا هو السعي لنشر هذه الثقافة اتكاء على قناعات تنطلق من تفسيرات تقارب بإسقاطاتها رؤى وتكهنات (نستراداموس) ، وأن تحقيق هذه النبوءات إنما يعني تعجيل نهاية العالم – كارثيا – وخاصة في التفسيرات لا الروحية الرمزية بل الصورية المقحمة لبعض ما ورد في الكتاب المقدس ، وذلك كتبشير من منطق (الألفية) بعودة المسيح الحقيقي(المهدي المنتظر) بعد ظهور المسيح الدجال وخسرانه ، حيث ستجري المعركة الفاصلة على أرض فلسطين في منطقة يطلق عليها اسم (هرمجدون)، معركة بين قوى الخير وقوى الشر طبعا وفق تفسيراتهم ، وبمساهمة قوى العالم الكبرى، وعندما يقترب العالم من الفناء يظهر المسيح المنقذ ليحكم الأرض ألف عام، وبهذا المعنى يكون العمل وفق هذا التفسير سعيا لدفع العالم نحو الهاوية، نحو الانتحار ، ونحو صراع الحضارات والاقتتال المدمر كمهمة مقدسة – وفق هذه الأطروحات – باعتبارها تنفيذا لمشيئة إلهية ..!! هل هناك ما هو أخطر وأكثر التصاقا بتوجهات اليمين الراديكالي الإسرائيلي ومعظم المتنفذين المسيطرين من المحافظين الجدد في واشنطن ؟؟
وهكذا – ومن خلال الاعتماد على الموروث المعتقدي، ومحاولة تكريسه عبر نشر (ثقافة) الحرب وضرورة إلغاء الآخر، وإسباغ صفات قدسية على هذه الأيديولوجيات- يتقارب موقف الإدارة الأمريكية مع موقف القاعدة من حيث الفحوى والتوجه، حيث تنطلق القاعدة من أن توسيع رقعة الحرب وجعلها كونية سيكون أكثر تأثيرا كون حيثياتها ستدفع إلى مواجهات شاملة يضطر حتى من لا يؤيدونها إلى الإنغماس فيها، ويتوجه المتصهينون الدخلاء على المسيحية ولو بمفارقات بسيطة إلى نفس الهدف في إطار تحقيق التفسيرات الخاصة للنبوءات الدينية بضرورة جعل الحرب القادمة انطلاقا من الشرق الأوسط شاملة ماحقة كبرى، وذلك كتنفيذ لهذه الرؤى الدينية المفترضة وفق التفسيرات المقحمة، ويغدو بوش وبن لادن في هذا السياق وجهين لعملة واحدة ،أو لأسطورة مختلقة واحدة، حتى أن بوش نفسه أشار في بعض تصريحاته إلى أنه يقوم بمهمة مقدسة من الرب في ممارساته وتوجهاته السياسية والحربية وأنه ينفذ رؤى ألهمته إياها المشيئة الإلهية..!! ومن المثير المضحك ان أحد التفسيرات لهذه التنبوءات حول معركة هرميغدون الكبرى تقول إن قوى العالم ستتقاتل على أرض فلسطين، وتنتهي المعركة بقتل مئات الملايين من المسلمين (والسوفييت) هكذا..!! وتنتهي طبعا بانتصار الصهاينة الدخلاء على المسيحية واليهود، عندها ينقذ السيد المسيح من تبقى وتبدأ الألفية ..– يبدو أن هذا التفسير جاء إبان تصاعد الصراع أوساط القرن الفائت بين المعسكرين الشرقي والغربي–. ألا يشير ذلك إلى الجوهر السياسي الحقيقي الذي يختفي وراء دعاة هذا المنطق، ثم ألا يمكن ان تدخل هذه الأطروحات في إطار تهيئة الرأي العام عبر التفسيرات المحرفة لتبرير احتمال شن حرب نووية استباقية في الشرق الأوسط ؟؟، من هذه التجليات محاولة التمهيد للطابع الشمولي للصراع ، بما في ذلك من بوابة محاربة الإرهاب وتكريس نشاطاته في منطقة الشرق الأوسط ، والتركيز على أن الرموز الرئيسية لهذا الإرهاب تكمن في سوريا (الموقف الوطني الرافض للاستسلام)، وفلسطين (المقاومة)، وإيران (المعاندة لواشنطن والمتابعة لتخصيب اليورانيوم) ، ولبنان (حزب الله) .. ألم يبدأ التمهيد لصراع الحضارات في محاولة عولمة منطق التوجهات الأمريكية بهذا الصدد منذ أن طرحه عام 1964 الكاتب الأمريكي برنارد لويس ثم عاد فشدد عليه عام 1990 بانحياز كامل لإسرائيل وتصوير الصراع بين العرب وإسرائيل صراعا حضاريا داعيا إلى مساعدة إسرائيل وحشد القوى لصالحها تحديدا. وهكذا تلعب القاعدة وواشنطن وتل أبيب على نفس الأوتار وإن بمنطلقات متباينة وأرضية مختلفة ولكن بهدف واحد هو تبرير السعي لإشعال حرب كونية وتكريس ثقافة نهاية العالم أو عولمة هذه الثقافة تمهيدا لاتخاذ خطوات عملية فحواها سياسي وتبريراتها ومسوغاتها متكئة على التفسير المغرض للموروث الديني.
أليس موقفا سياسيا صارخا في هذا الاتجاه أن يصدر الكونغرس الأمريكي عام 1990 قرارا بمثابة قانون يعتبر فيه القدس عاصمة لليهود في إسرائيل دون أن يذكر في صياغته اسم المسلمين ، أو حتى المسيحيين مكتفيا بالإشارة إلى أن ديانات أخرى تعتبر القدس مدينة مقدسة أيضا. وإذا كانت الولايات المتحدة قد ساهمت في مرحلة سابقة مساهمة كبرى بنشوء القاعدة وتمويلها وتسليحها لمواجهة القوات السوفييتية في أفغانستان، فإن الممارسات الأمريكية تجاه العرب وانحيازها المطلق لإسرائيل كان من بين البواعث التي ساهمت في تكريس وتعميق التطرف لدى القاعدة، وإلى التحول الانعطافي لدى ابن لادن باتجاه العداء لأمريكيا التي لم تخف عداءها للعرب والمسلمين وانحيازها لعدوهم ، فتحققت بذلك مقولة انقلب السحر على الساحر.
ومن المثير المفرح في هذا السياق أن الغالبية الساحقة من المسيحيين والمسلمين يرفضون هذه الهرطقة السافرة وهذه التفسيرات ، ويفضحون بأنفسهم أهدافها المغرضة الماكرة ، والتي تهدف إلى إفشال حوار الحضارات وخاصة بين المسيحية والإسلام. وليس صدفة أن تركز الكاتبة الأمريكية غريس هالسل على أن هذه التوجهات تهمش المسيحيين الشرقيين وتكن لهم العداء وتحول دون لقاء الزائرين الغربيين للقدس مع ممثلي الكنائس الشرقية وكأنهم غير موجودين على هذه الأرض المعذبة.
*– كتب مارتن لوثر مؤلفه هذا في إطار تحمسه لنشر المسيحية بين اليهود وفي أوج صراعه ضد سيطرة البابا والكنيسة وقد نشر الصهاينة كتابه بلغات مختلفة ونقلوه حتى إلى فلسطين، لكنهم تجاهلوا تماما مؤلفه اللاحق في فضح خداعهم وتزيفهم تحت عنوان ( اليهود وأكاذيبهم).