بقلم : أيمن أبو الشعر
تصاعد – مؤخرا- جدل بالغ الحساسية في تناولاته وأطروحاته وتبريرات فرقائه حول مصداقية أو خطل سياسة التطبيع مع إسرائيل، وانخرطت في هذا المعمعان أسماء عادية ، وأسماء إبداعية وفنية هامة وخاصة في مصر الشقيقة الأمر الذي انعكس على شاشة التلفاز وفي الشبكة الأخطبوطية، ولم يعد مجرد سر وراء الكواليس، ووصل الأمر حد التمترس وراء درع العم سام أملا بوعود (الأعدقاء) في هاجس حلم النعامة لجعل المأمول واقعا وهي في محور هدف بندقية الصياد.
جوهر الأمر ان عددا قليلا من الفنانين والمثقفين المصريين تبرعوا باسم العقلانية بتقديم إعلانات أريحية حول ضرورة تكريس التطبيع مع إسرائيل ، بمن في ذلك مؤخرا الفنانة الشهيرة يسرى التي دعت إلى توسيع العلاقات مع إسرائيل على (جميع المستويات..!) ، حيث جاءت هذه التصريحات في إطار احتفال في حديقة قرب الأزهر لتقليدها منصبا فخريا كسفير للنوايا الحسنة من اليونيسكو، في حين ان عددا من الفنانين العرب بمن فيهم -إذا لم تخني الذاكرة- (دريد لحام وحسين فهمي وعادل إمام وجمال سليمان.. ) الذين قلدوا هذا الوسام الفخري تخلوا عنه ، ورفضوه كاحتجاج على تحيز الأمم المتحدة وصمتها إزاء العدوان الإسرائيلي على لبنان .
الأكثر إثارة في هذا المجال أن الكاتب المسرحي المصري الشهير علي سالم بات منذ حين غير قصير أحد اهم رواد هذا الاتجاه ، والمفارقة هنا تكمن في التحول 180 درجة من دعم ثقافة المقاومة إلى دعم ثقافة التطبيع، ويستوقفنا هنا أن علي سالم – وهو الذي أدهش الجمهور العربي في كثير من المسرحيات (قرابة ثلاثين عملا مسرحيا) من مثل إنت اللي قتلت الوحش في إسقاط أو استنباط (كوميدي مفاجئ) من مسرحية (أوديب) المأساوية لسوفوكليس بغض النظر عن الأراء المغايرة ، ومدرسة المشاغبين، والأهم والجوهر مسرحية أغنية على الممر، التي يتحدث فيها عن روح الصمود لدى الشعب المصري كمحور لصمود الشعب العربي ، ورفض منطق الهزيمة،- هو الذي يتباهى بأنه بات من أكثر المتحمسين لسياسة التطبيع، وذلك منذ سنوات غير قليلة زار فيها إسرائيل خمسة عشر مرة ورحبت به إسرائيل وأكرمته حتى منحته جامعة بن غوريون الدكتوراة الفخرية وروجت لكتابه رحلة إلى إسرائيل.
في أغنية على الممر استنهاض لأنبل المشاعر الإنسانية والوطنية ورفض الذل والاستكانة والاستعداد للموت في سبيل قضية عادلة رغم القهر المسيطر يعكس فيها علي سالم روح ثقافة المقاومة ورفض الاستسلام ، فكيف استطاع هذا الكاتب عبور الجسر الذي ما زالت تفوح من جوانبه روائح الدم إلى ضفة السكاكين القاتلة مهما كانت المغريات؟؟
السؤال هنا لا يتعلق (بمفكر موضوعي) يرى ضرورة التنازل في حدود الحل الوسط انطلاقا من أن حالة الحرب لا يجوز ان تستمر إلى الأبد- كما يشير نفسه- بل التكيف مع واقع يفرضه العدو وقد ازداد صلفا وتعنتا وقتلا وإبادة،. ويقول علي سالم في حوار سابق مع صحيفة الجزيرة السعودية أن من لايرى (أننا) في علاقة طبيعية مع إسرائيل لا يفهم معنى السلام ؟؟!! وأن الوسط الثقافي العربي لم ينضج بعد ليتحمل هذه المسؤولية ..!!
ما الذي تناساه الكاتب (الذي أحبه كمبدع، وأرفض موقفه كقارئ للأحداث) في هذه الحومة ؟ الذي تناساه أو نسيه هو أن حالة السلام المفترضة مع إسرائيل لم تتكرس أبدا، بل لم تبدأ، ومما له دلالته أن القمة العربية في بيروت أقرت خطة سلام واضحة المعالم تسعى فيها للحفاظ على الحد الأدنى من الكرامة على مبدأ (عربي وشوية كرامة للفنان همام الحوت)، ولكن إسرائيل رفضت وما زالت ترفض أية مبادرات تحمل حلولا منطقية عادلة . والحديث عن وجود تيار ولو ضعيف داخل إسرائيل يناصر الحل السلمي العادل مع العرب هو اتكاء في غير محله لأنه أولا لا يقف مع هؤلاء، وثانيا لأن دعم التطبيع في ظروف القهر والإذلال خيانة ليس فقط للشهداء والمقهورين ، بل وحتى لأولئك القلة من أنصار السلام في إسرائيل، لأنه دعم مباشر للمتعنتين المتشددين الذين انسحبوا حتى من الحكومة الإسرائيلية من مثل ليبرمان (إسرائيل بيتنا) لمجرد إجراء حوارات مع الجانب الفلسطيني.
جانب أخر يثير الاهتمام في السياق نفسه حيث نشرت صحيفة الأخبار المصرية قبل حين مقالا توضح فيه أن لدعوات التطبيع أحيانا مجسات خفية تتعلق بمكاسب مباشرة آنية ، منها وجود مخططات خفية – ولكنها مباشرة- لجعل المسرح القومي المصري جسرا لهذا التطبيع ، وأن هذه الزوبعة تتعلق واقعيا برغبة إحدى الشخصيات الكبيرة المسؤولة ثقافيا في الحصول على منصب الأمين العام لليونيسكو مما يستدعي مغازلة إسرائيل والولايات المتحدة – الإسرائيلية – لضمان عدم الاعتراض ؟؟!!
ولا نود الدخول في هذا المعمعان ولكن من السذاجة تماما أن يتعلل البعض بالديمقراطية التي غدت – في كل ما له علاقة من قريب أو بعيد بإسرائيل- لعبة شطرنجية تبدأ رقعتها بإلغاء جميع فيالق الطرف الآخر والإبقاء له على بيادق لاحول لها ولا قوة مما يكرس الابتعاد عن أي خيارمنطقي عادل وشامل .
ما الذي جرى مع كاتب أحبه الجمهور هو علي سالم ؟ الذي جرى أن الجماهير العريضة انفضت عنه وإمعانا في تمترسه في الموقف الذي اتخذه بات وفق المثل الشعبي كمن (يرش على الموت سكرا) موحيا بأن جل الشعب المصري يقف معه..!! و كل المعطيات تؤكد العكس.
ياأستاذ علي سالم ..!! المفارقة كبيرة جدا بين كاتب ومفكر حتى أجنبي من مثل روجيه غارودي أدرك الحقيقة فوقف إلى جانبها غير آبه بما سيناله من اضطهاد وجور، وبين من يود أن يبدو في أعين القتلة مدافعا عن سياستهم ونهجهم باسم السلام (المشوه)، والفرصة ما زالت مفتوحة، أرجوك فقط (بكل حب) – قبل فوات الأوان – أن تستقرأ الأخبار وأنباء القصف والحصار والضحايا من النساء والأطفال والرجال ودمار البيوت والأحياء والبنى التحتية لدى الفلسطينيين ، لا بعيون من عانوا وشردوا ويقتلون يوميا بل على أقل تقدير بعيون موضوعية، وأنا أتمنى عليك أن تعيد رؤية فيلم أو مسرحية أغنية على الممر للكاتب المبدع علي سالم قبل تحوله إلى ثقافة التطبيع . والرائع أن نقول الرجوع عن الخطأ فضيلة ، قبل أن يتكرس في ذاكرتنا عندما نذكرك ذاك البيت الشعري الرائع للشاعر المصري نجيب سرور :
لا تقولوا حمل المرء الأمانة قد يخون المرء عند الاحتضار .