المنفى والنهر

المنفى والنهر

 

1

 ينمو في الليلِ نباتُ الصمتْ

يورِقُ ضجراً أرَقاً

ثمَّ نُعاساً واستسلامْ

حينَ يطولُ الليلُ يطولُ مع الأيامْ

يكبرُ نبتُ الصمتْ

يُفرِّعُ حتى يغدو شجرةْ

تُدعى الموتْ

2

قابلتُ رجالاً في المنفى

قابلتُ نساءً في المنفى

قابلتُ شيوخاً أطفالاً

مشدوهينَ برُعبِ المنفى

كانوا مرضى

وأنا وحدي أحملُ تاجَ الصحة

فمتى أُشفى؟

في المنفى عشتُ طويلاً

قابلتُ الأبطالَ بغيرِ شفاهْ

ورأيتُ الغلمانَ المخصيينْ

في المنفى…! ؟

وأنا لم أرحلْ منذُ سنينْ

لم أتركْ هذا المشفى

3

قد كنتُ بتلكَ الكرمَةْ

داليةَ عطاءٍ وأغانِ

في التربةِ تمتدُّ جذوري

أمتصُّ وجودي إيمانيْ

أتنفسُ صمتي أحزاني

أتصبى نورَ الصبحِ فأنمو نحوَ القِمةْ

يسري اليخضورُ بشرياني

أتورَّقُ أفئدةً تُدمى

فَنني رعشاتٌ من لثمةْ

أزهاري إغضاءُ البسمةْ

وعناقيدي أفواهْ

للحبِّ تُغنّي وشفاهْ

وعيونٌ تعرفُ ما يأتي

 آذانٌ تَتَقرّى الكلمةْ

والفرقَ بنطقِ الآهِ … وآهْ

لأني داليةُ أغانِ

أتغنّى بالقلبِ الحاني

والريحُ تُردِّدُ ألحاني

في الكرمةِ للعنبِ الداني

وأحذِّرُ كلَّ البياراتْ

شبحاً “أيلولُ” سيأتينا

وسيأتينا الجاني الجاني

لأني داليةٌ تحكي

وبقلبي ما فوقَ لساني

جاءَ الطاعونُ بجنحِ الليلِ وعرّاني

مزَّقني أحرقَ أغصاني

4

يا طفلَ الجيلِ الآتي

يا مَنْ تأتي هذه الحانةَ لا تدري

في الخمرةِ أكسيرُ حياتي

في التربةِ مسحوقُ رُفاتي

يا طفلَ الجيلِ الآتي

إن كنتَ ستجرعُ خمرَ الكرمَةْ

حينَ سيأتي زمنُ البسمةْ

فتذكَّرْ أنّا

عِشنا زمنَ الحِصرمْ

لا تُخدعْ ببريقِ الكلمةْ

فإعصارُ العاتي يبدأُ نسمةْ

اغرسْ رجليكَ بهذي الأرضْ

دعْها تنبتُ في قدميكَ أصابعُ أخرى

تمتدُّ… وتمتدّ

واصبِرْ حتى ينمو شعرُ الساقِ ويشتدّ

يحملُ ألفَ قلنسوّةْ

وحينَ ستأتي عند الليلِ رياحْ

فستعرفُ ما معنى القوّةْ

5

يا طفلَ الجيلِ الآتي

الأرضُ حياةْ

احفرِ بالرمشِ بعظمِ الصدرِ خنادقَ لا ترحلْ

فالأرضُ حياةْ

كُنْ مثلَ النخلِ عروبةْ

كُنْ شيئاً من هذي الأرضْ

أشبِعها نزفاً وخصوبةْ

مهما اقتلعوكَ ستبقى الأرضْ

كُنْ بؤرةَ ثورةْ

واحمِلْ طبعَ الحُفرةْ

حينَ يُجوِّفُ صدرَ الحفرةِ خنجرْ

تصبحُ أكبرْ

الأرضُ حياهْ

لم يقتلعوكَ وإنْ جفَّتْ في النهرِ مياهْ

لن يُمحى هذا النهرْ

وسيبقى يُعرفُ مِن مجراهْ

…