انطباعات بين البدايات وانتحار الدلفين

 

عبد القادر الحصني

تعرفت إلى الشاعر الصديق أيمن أبو الشعر في أواسط السبعينات من خلال الأمسيات الشعرية الجماهيرية الحاشدة التي كان يقيمها ومن خلال أربع مجموعات شعرية صدرت له في تلك الفترة صندوق الدنيا وبطاقات تبرير للحب الضائع وطلقات شعرية والصدى الانطباع الذي أحمله عن شعر شاعرنا من تلك الفترة أوجزه في النقاط التالية أولا أنه شعر تقريري جريء يحمل جرعة كبيرة من الصخب السياسي ثانيا أنه شعر مباشر يتواصل مع المتلقي عبر فعاليات اسلوبية تقوم على المفارقة والإبراز المثير في اللغة والطرح ثالثا شعر يقدم المضمون على الأسلوب ويقدم المضمون الاجتماعي السياسي على المضامين الأخرى هذا التعرف إلى تجربة الشاعر أيمن أبو الشعر تعرض لفترة انقطاع مديدة  فعلى مدى أكثر من عشر سنوات مضت لم اطلع إلا على النذر اليسير من شعر الشاعر ولعل اهتمام الشاعر بالتحصيل العلمي لنيل شهادة الدكتوراة وسفره إلى الخارج أن يكون لهما تأثير في انقطاعي عن متابعة هذه التجربة وها أنا ذا أجد بين يدي ديوانا جديدا بعنوان انتحار الدلفين يضم مجموعة من آخر ما كتب الشاعر أيمن أبو الشعر من قصائد. وقبل الإدلا ء بأية فكرة حول هذه المجموعة أشير إلى أنه لا بد وأن سبقت للشاعر مجموعة شعرية أو أكثر في غضون فترة الانقطاع هذه ولم أطلع عليها. في هذه المجموعة الشعرية الجديدة أتعرف إلى شاعر جديد مغاير إلى حد كبير للشاعر أيمن أبو الشعر الذي عرفته من قبل ولما كان من الصعوبة بمكان أن أقدم دراسة وافية حول هذه المجموعة لاعتبارين أولهما قصر المدة التي أتيحت لي للاطلاع عليها قبل هذه الأمسية وثانيهما طبيعة هذه الأمسية الشعرية التي تحتمل مداخلة وجيزة أكثر مما تحتمل دراسة مستفيضة على أية حال أرجو ألا يكون في مقاربتي الوجيزة هذه ما يعكر صفو الشعر فالشعر أولا وأخيرا برسم الذائقة الشعرية التي تتلقاه وبرسم هذه الثقافة التي تكمن وراء هذه الذائقة ولعل الانطباع الذي يتركه النص الشعري لدى المتلقي أن يكون أهم بكثير من المقاربة النقدية لأن النص مكتوب أولا للمتلقين الذين قد يحبونه أولا يحبونه أما دور الناقد فيأتي لاحقا مراعاة لما سبق أقتصر مقاربتي هذه على قصيدة واحدة من قصائد الديوان ولتكن القصيدة التي أخذ الديوان منها عنوانه وهي انتحار الدلفين وليكن حديثي مقصورا على التنويه ببعض الميزات الأسلوبية وبعض التقانات الشعرية في هذه القصيدة وبعرض انطباع خاص عنها.

أبدأ بالميزة الأولى التي أشرت إليها حين قلت أن هذه المجموعة قد عرفتني إلى شاعر مغاير للشاعر الذي عرفته من قبل فقد أردت بهذه الإشارة التنويه بميزة إيجابية لهذه المجموعة إذ أن من أهم صفات المجموعة الجديدة أن تكون مفارقة لما سبق من أساليب وتقنات شعرية في المجموعات الشعرية السابقة للشاعر على الأقل إن لم نقل لكل مجموعة شعرية سبقتها على الإطلاق هذه المفارقة هي التي تنم على مراحل مختلفة في إطار التجربة الشعرية فتجربة شعرية بلا مراحل هي تجربة منتهية وراكدة تجتر ذاتها.

في قصيدة انتحار الدلفين لفتني الخيال النامي الذي نقل لغة النص من أفق التعبير إلى أفق التصوير فقد استطاع الشاعر في هذه القصيدة أن يوصل مضامينه إلينا على أجنحة الصور التي تتابعت كشريط سينمائي في بعض مقاطعها وتبعثرت كصور متفرقة في حلم في مقاطع أخرى وفي كلا الحالين عرضت الفكرة في لوحة. لفتني أيضا في هذه القصيدة حسن التوظيف الأسطوري وعمق الاسقاط التاريخي ولو أن التوظيف جاء من ثقافتين متباينتين ذلك لأن الشاعر لم يوزع  أبعاد الأسطورة أو المعطى التاريخي بحيث تنسرب خيوطهما في جسم العمل الشعري كاملا بل استخدم المعطيين كأداة لتعميق فكرة في سياق العمل الشعري. فعوليس حضر في النص تجسيدا لانتصار المهزوم وإبرازا معاناة الوفاء الإنساني مجسدا ببنلوبي حين يطول الصراع بعد استنفاد مجريات الواقع لأسانيد غائيتها ويوحنا المعمدان جسد مأساة النقاء حين يواجه الطغيان والرذيلة وقد تحالفا ضد المبدأ والموقف والحق. ميزة ثالثة في هذه المجموعة هي المعجم الشعري المتناغم بين الغموض والوضوح، المتناغم بين المفردات الواقعية والمفردات الحلمية ففي هذا الديوان نحن في نص يتماوج هو هناك وهو هناك في آن واحد يريد أن يقول طروحه بشكل مباشر حينا وبشكل غير مباشر حينا آخر مما يخلق من الحالتين معا توليفة تخلق متعة النص الاقتصاد اللغوي ميزة رابعة في هذا النص فلطالما عانينا  في الشعر الحديث من اندياحية لا غاية منها إلا تراكم المفردات بحيث يصبح جسد القصيدة مترهلا عليها فتفقد رشاقتها وتفقد رهافتها وتفقد جاذبيتها للمتلقي نحن هنا مع هذه القصيدة أمام نص فيه قدر من الاقتصاد اللغوي بحيث لم تأت المفردات إلا لابسة لمعانيها تماما. شيء أخير لا بد من التنويه به وهو إنسانية المضمون الذي حملته قصيدة انتحار الدلفين فالدلفين يرمز إلى الوعي الساذج النقي العميق غير واضح الأبعاد والمعالم بعد أن ضاع السمت وضللت قدرة البوصلة وانهارت مشاريع كبيرة كانت إنسانية جدا هنا لا بد أن يقف الشاعر ذاهلا وحائرا رافضا متفكرا بمآلات العالم على الأقل في العشر سنسن الأخيرة من هذه القصيدة يبقى الشيء الكثير يبقى البحث عن القيمة أية كانت هذه القيمة تأسيسا لتوجه جديد للإنسان في عالم بات بلا قيم إلى حد كبير