د. عبد الله الشاهر
في الحقيقة لم يشكل لي مفاجأة ديوان الشاعر الدكتور أيمن أبو شعر «سلاماً ـ مواعيد قلبي ـ دمشق» ومبعث ذلك أن الديوان يتحدث عن دمشق، ودمشق حالة عشق بذاتها، فقد وقع في عشقها شعراء كثر وكانت قصائدهم تصلح أن تكون معلقات على صدر دمشق.. فكيف نفاجأ وشاعرنا هو ابن دمشق ترعرع في حواريها العتيقة، وامتلأت رئتاه من شذى ياسمينها، وغبّ من بردى حتى الارتواء، فهو حكماً العاشق الذي لمّا يزل رسمها على حوافّ شفاف قلبه، ودليلنا على ذلك قوله:
أنا الياسمين الحواريُّ
وجوريُّ خدّ النهار
شميمُ الندى في ترابِك
وتهويمةُ العشبِ بعدَ المطرْ
ونارنجُ دارِكْ
إذا ما تمرّى بضوءِ القمرْ
قناديلُ كبَّادُكِ الحلوِ عند السحرْ
مواعيدُ خصبُكِ في النبضِ برقُ
لفجرٍ جديدٍ وشعبٍ سعيدْ
بزندٍ بلا مطرقات
يَدقُّ الحديدَ الرؤى إذ يدقُّ
سلاماً ـ مواعيدَ قلبي ـ دمشقُ
هذا المقطع هو افتتاحية «قصيدة ـ سلاماً ـ مواعيدَ قلبي ـ دمشق» وهي القصيدة التي حملت اسم الديوان، وهذا المقطع كذلك بطاقة تعريف واضحة بالشاعر الذي تماهى مع دمشق فهو ياسمينها، وجوريها، وشميم نداها، وتهويمة عشبها، ونارنج دارها، وقناديل كبّادها ومواعيد خصبها، وهذا التماهي الرائع يوصل الشاعر إلى حد الوله ولا عجب ولا ضير فدمشق المدينة التي شاب التاريخ على يديها ولم تشب.. ودمشق التي ظلَّت وبأنفة تختزل كل المعارك التي دخلتها لتنتصر.
وهنا سأقف عند هذا الحد ولن أناقش في حالة عشق مثبتة وكل حرف من حروف هذه المجموعة يقطر حباً وياسميناً ونارنجاً فهي وثيقة دامغة بأن الشاعر غارق في حبه من رأسه إلى أخمص قدميه وأول أثباتٍ على ذلك «سلاماً ـ مواعيدَ قلبي ـ دمشق» لذلك لن أدخل في جدال مع محب.. فهو محب وكفى ولا أزيد.
ولكنني سألتفّ على حالة الوجد التي صاغ بها الشاعر حبه من خلال تنوع الأشكال الشعرية وتداخلها والتي سأجملها في مجموعة من المرتكزات:
أولاً ـ يحرص الشاعر على تنوع الأشكال الشعرية في ديوانه، ساعياً بذلك إلى اختبار الممكنات الجمالية في كلّ شكل شعري، وهذا يعني أن الشاعر لم يسجن نفسه في شكل شعري بعينه، وإنما عمل على استثمار طاقة مجمل الأشكال الشعرية، والانفلات في الآن نفسه من عقالها، إذ إن تجربة الشاعر كانت أكبر من الأشكال، وإن اتخذت منها سبيلاً للتعبير، وقد بدا ذلك من خلال:
أ ـ القصيدة العمودية وفتنة الشكل القديم.. حيث وجدنا الشاعر حريصاً على العودة إلى القصيدة العمودية كما في قصيدة «غاب الحبيب عن الأحداق مرتحلاً» وقصيدة «لبنان في القلب».. وعلى ما أعتقد أن الشاعر أراد به نوعاً من الالتفات الوظيفي إلى القالب الشعري التقليدي الأكثر تجذراً في الذائقة، وعلى ما يبدو أن الشاعر كتبهما مغايرة لا تقليداً وإن اشتركتا في البناء الإيقاعي، أو ربما يكون الموضوعان يتناسبان والشكل الإيقاعي، وسأجتزئ شاهداً من قصيدة «لبنان في القلب».. يقول الشاعر:
المتعبونَ بوشم الرُّوحِ بَصمَتُهُم | والحالمونَ لهمْ أشرَعْتُ أجفانا | |
إنِّي لأعشقُ حتَّى بتُّ من ولهٍ | أراقصُ الكونَ في عينيكِ أكوانا | |
قد آنَ يا شامُ بعض الدَّمِّ نَفْصِدُهُ | من قبلِ أنْ يغشى قيحاً وأدرانا |
ب ـ لا شك أنَّ الشاعر على وعي تامٍّ بهيمنة المنحى العمودي على الديوان لكنَّ الشاعر يترك للقصيدة حرية الشكل والتفعيلة وهذا ما يمكن رصده في أربعة مستويات..
المستوى الأول والمتعلق بأطول الأبيات الحرة، فقد وجدنا حرصاً على تنويع أطوال الأبيات في كل قصائد الديوان، فما من تماثلٍ واضحٍ في عدد تفعيلاتها إلا فيما ندر، وهذا يعني أن الشاعر يستمدُّ بنا قصديته من التفعيلة باعتبارها الوحدة الوزنية الرئيسية في النمط فمن بيتٍ قائمٍ على تفعيلةٍ واحدة إلى بيت قائمٍ على أربع أو خمس تفعيلات، وسأورد شاهداً من قصيدة «عشتار وتجليات الواقع والمطلق بين الموت والحياة» المقطع الخامس «الاغتصاب» ص 53 ـ يقول الشاعر:
لو يُنادي مُنقذاً في الليل فمْ
جنَّ مجموع النغمْ:
أيُّها النَّصلُ الأصمْ
غُصْ إلى القلبِ استحِمْ
هاتِ دمْ
هاتِ دمْ
شاهدٌ آخر من قصيدة «أهوى الكرز» ص 102 يقول الشاعر:
أهوى الكرزْ
وأُحبُّه في غصنِهِ في صحنِهِ
وأُجِلُّهُ كالتوتِ ما اكتملتْ به ألوانُهُ في برعمتينْ
وافترَّ من حُضْنِ الحليبِ الرخوِ غضَّاً إذ برزْ
منقارَ عصفورٍ على ريشِ الإوزْ
أهوى الكرزْ
إن هذا التشكيل يؤكد طواعية النظم في الحالة الإبداعية للشاعر، ويمنح التفعيلة قدراً أكبر من الحرية لتمتدّ وتنحسر حسب ما تمليه الحالة الشعرية.
أما المستوى الثاني: فهو عائد إلى نظام التقفية الذي اعتمده الشاعر في نصه الشعري، وهو نظام ـ حسب ما أرى ـ يعكس مرونة النظم في شعر الشاعر وانضباطه، وتُعد التقفية المقطعية أهم أنماط التقفية السائدة في الديوان، والحقيقة أنَّ الشاعر زاوج بين ائتلافٍ في القوافي الختامية لمقاطع القصيدة من جهة، واختلافٍ في القوافي الداخلية لكلِّ مقطعٍ على حدة، ومن أمثلة ذلك، قصيدة «عندما يأتي الصباح» ص 87 يقول الشاعر:
ربَّما تأتي تباشيرُ الصباح
عندما نرنو لها
حاملين الفجرَ يرفو ظلَّها
بعدَ أن جئنا إليها بالرماحْ
بالمدى نفري سراعاً باسمِها أوصالَها
وهي تهفو نحونا رغمَ الجراحْ
لا صراخاً لا نواحْ
فهي مازالت ترى فينا هُنا أطفالها
والعياسيبُ استشاطتْ
لا ترى فيها سوى سمْتاً وساحْ
والملاحظ أنَّ قافيتين أساسيتين في هذا المقطع حيث الحاء وردت خمس مرات بينما وردت اللام والهاء مع الإطلاق أربع مرات ويتناوب وهذا النمط من التقفية جميل وقد تكثَّف حضوره في الديوان في أغلب القصائد…
ويقوم المستوى الثالث على استدعاء اللازمة الشعرية، وهي بيت أو أكثر يتكرر في مواضع معلومة من القصيدة الحرَّة، وهذا التكرار ينهض بوظائف عديدة، منها في هذا المقام الوظيفة الإيقاعية، ومنها الانتقال من موضوع إلى آخر، ومنها التأكيد على حالة ما، والحقيقة أن الشاعر أتقن اللازمة الشعرية وبشكل واضح، ومثال على ذلك قصيدة «الحصان» ص 35 حيث تتكرر فيها اللازمة الشعرية «ودَّعت خلاَّني وقلتُ أموتُ» أربع مرات، وفي كل مقطع يبتدئ الشاعر حالة شعرية وموضوع آخر، وكذلك في قصيدة «سلاما ـ مواعيدَ قلبي ـ دمشق» فقد جاءت اللازمة في نهاية كل مقطع.. وأعتقد أن الشاعر عندما وضع اللازمة في مقدمة المقطع أراد التذكير ولفت الانتباه والإثارة، بينما اللازمة التي جاءت في نهاية المقطع فهي قاعدة ومرتكز لكل ما تقدم.. ومن المفيد التذكير بأنَّ اللازمة الشعرية في نص الشاعر هي برهنة على الحيوية في النص، وعلى قدرة هذه اللازمة إيقاعياً وفعلها دلاليا..
أما المستوى الرابع فهو تداخل الأشكال الشعرية في قصائد الديوان فالمتأمل في نص الشاعر يلحظ أنه عمد إلى بناء أشكالٍ شعرية متداخلة فيا مزج صارخ بين شكلين شعريين، والأمثلة على ذلك عديدة ومنها قصيدة «القل ما قالت دمائي» وقصيدة «قليل كثير» وقصيدة «قلبي على قلبي احترق» وسأورد شاهداً على ذلك من قصيدة «قلبي على قلبي احترق» ص 5 يقول الشاعر:
يا شامُ وجهيْ لم يزلْ قطرَ النَّدى
يروي سهوبَ العشقِ أفقاً للمدى
لي في مرابعها صهيلٌ شامخٌ زغرودةً
كالعقد يجمعُ حاضناً جيدَ الصدى
من شهقةِ الإعصارِ شدَّ سروجَهُ يوم السبقْ
نبضي سنابكُ عدوِهِ لحنين ثغركْ
يمضي إلى عرس اللقاءِ يزيحُ أستارَ الغسقْ
من خفقةِ الراياتِ تزدحمُ النسائمُ موعدا
لكنَّني من فوَّهاتِ عقاربِ الصحراءِ
تترى فوق ظهرِكْ
وتبسُّمِ الثَّغرِ المضرَّجِ واثقاً
ليشَّد أزري رُغمَ قهرِكْ
روحي انسكابٌ في الورقْ
وهذا المقطع متكون من مقطع عمودي وآخر تفعيلي، ولا شكّ أن المقطعين على تفعيلة واحدة (تفعيلة البحر الكامل) وهذا يؤكد أنَّ التنوع في معمار القصيدة كامنٌ في أصل نشأتها وليس هو بالمصطنع، فلم يجمع الشاعر بين الشكلين عنوة، وإنما هي اللحظةُ الشعريةُ وتناقضاتها، فجاءت القصيدةُ لا هي بالعمودية الخالصة ولا هي بالتفعيلة الكلية..
إن المراوحة بين حرية البناء الإيقاعي متمثلاً في الشكل التفعيلي من ناحية وضبطه في شكل محكم على غرار الشكل الإيقاعي التقليدية من ناحية أخرى حاضرة في قصائد شتى من الديوان، وهذا التداخل في الأشكال الشعرية في نص الشعر يعصمها من الرتابة والتماثل، ويسمُها بالمغايرة والتمايز.
ثانياً: ميزة أخرى نجدها في نص الشاعر الإيقاعي، وهي ميزة التكرار في العديد من قصائد الديوان، ففي قصيدة «قليل كثير» ص 12 المقطع الثالث من القصيدة تكررت مفردة «قليل» خمس عشرة مرة، يقول الشاعر:
قليلٌ من الدفءِ في موقدِ الرَّفضِ
وسطَ الجليدِ الرضوخِ البليدْ
قليلٌ من النبضِ وسطَ العروقٍ
يداري الذراع النحيلْ
قليلٌ من الزيتِ وسطَ السراجِ الدليلْ
قليلٌ من النطقِ والحبرِ في وجهِ صمتٍ ذليلْ
قليلٌ قليلٌ قليلٌ قليلْ
ولم يبقَ نحو اللقاءِ الجميلْ
سوى يومِ عومٍ على رحلةِ الألفِ ميلْ
قليلٌ من الضوء حَزَّ الظلامَ الوبيلْ
قليلٌ من الرَّعشِ في جلدِ كفٍّ دَنَتْ نحو نعشي
قليلٌ من البرقِ من خلْفِ رِمشي
تحدّى جنون الصليلْ
قليلٌ قليلٌ قليلٌ قليلْ
والتكرار هنا لا يأتي اعتباطاً، إنه تأكيد، ولفت انتباه، ورسم صورة وهو ظاهرة فنية جمالية بشكل عام، ولم يقتصر التكرار في نص الشاعرة على الكلمات فقط، فقد جاء التكرار في نصه على شكل جملة، أما في قصيدة «سيأتي يوم أن نشدو تهانينا» ص60 وهذه القصيدة حدائق رائعة يكرر فيها الشاعر مفردة «تعازينا» ثلاث مرات، ومفردة «كل» ست مرات، ومفردة «هنا» اثنا عشرة مرة.. واللافت في هذا التكرار أن مفردة «هنا» وردت أربعة أمثال «تعازينا» وكذلك مفردة «هنا» فإنها تساوي ضعف مفردة «كل».. وهذه العددية تبدو مدروسة بدقة فهنا الثبات والأصالة ولذلك فهو يقول:
هنا ميلادُ فاجعتي
هنا تاريخُ أغنيتي
هنا صوتي تقمَّصني
هنا لغتي
هنا أرجوحتي الأشهى
هنا لعبي
هنا ميلادُ أشرعتي
هنا أشعلتُها شهبي
لآفاقٍ تمجِّدُ ذروةَ التعبِ
هنا دربي، هنا آثارُ قافلتي
هنا ألقٌ يعذبني..
……….
……….
هنا أعجوبةُ العجبِ
إذاً فالتكرار في نص الشاعر جاء متوضعاً تموضعاً دلالياً واضح المعالم، وكذلك جاء إيقاعاً جمالياً ليشكل حالة من الفعل الذي يثير في النفس الحماسَ.
وفي المقطع الخامس من قصيدة «عشتار وتجليات الواقع والمطلق بين الحياة والموت» ص52 والذي جاء تحت عنوان «اغتصاب» فقد جاء التكرار على شكل سؤال «لماذا» وهذه الـ لماذا وردت ثمان مرات في النص، ولاحظ كيف أن الشاعر لوّن هذه التساؤلات بوعي.. يقول الشاعر:
فلماذا كالسُدى تنسابُ أنهارُ الدماءْ
ولماذا كالردى تنهارُ أصداءُ الرجاءْ
ولماذا بالمدى وهمٌ تشفَّى طاعناً ظهر الرجاءْ
ولماذا تَنحرُ الظلمةُ أعناق الضياء
ولماذا كلّما عشتارُ غنَّتْ باسمِ حلمي جرّحوها
ولماذا كلَّما أوغلتْ في عشقي إليها أبعدوها
ولماذا سارعَ الكهّان في رشّ الحُنوطْ
ولماذا أنتَ يا من تبصر المكتوبَ ـ حتى ـ دونَ عينْ
عالماً أبقيتني أعمى عنِ الآتي بعينينِ اثنتينْ
وهذا المقطع من قصيدة رائعة وهي ملحمة مكونة من تسعة مقاطع جال فيها الشاعر مجالات واسعة وهي تحتاج إلى دراسة متأنية لا يتسع هذا المقام لها..
وهنا سأكتفي بهذا القدر على الرغم من أن الديوان يستفزكّ لأنه تكتب عنه أكثر من عدد صفحاته، فنصوصه متخمة بالأفكار، والصور، والانزياحات، والدلالات، والإسقاطات وهذا لم أتعرض له خشية الإطالة.. ولكنني سأورد بعض النقاط وبشكل سريع وهي:
1ـ يتميز هذا الديوان في أنه لم يتوقف عند الحقل التخييلي بل كانت مواضيع وطنية وفكرية ومجتمعية عدة..
2ـ استولت دمشق على أغلب قصائد المجموعة.
3ـ يحكم الديوان رؤية سردية تحليلية لا تجامل ولا تتحامل.
4ـ أخذت الحرب على سورية حيزاً كبيراً من الديوان.
5ـ استخدم الشاعر الفعل المضارع الذي فاعله الضمير المستتر وجوباً (أنا) مثل «أمتدُّ جسراً، أحبُّ صفاء المرايا.. الخ» وكلها تفيد الطموح والاستقبال وهي حالة تفاؤلية يسعى إليها الشاعر.
6ـ استخدم الشاعر «كاف» الخطاب للتعبير عن حميمية العلاقة مثل «ترابكِ عينيكِ ـ خصبكِ ـ حنانيكِ ـ وجهك. الخ».
7ـ لغة النص قوية ومناسبة للسياق الشعري، وربما نلحظ في بعض النصوص توليداً لألفاظٍ تصعّد الصورة الشعرية.
وسأختم بنص صغير جاء تحت عنوان «الانتصار»، هو صغير في كلماته كبير في دلالاته ومعانيه.. يقول الشاعر:
إن خسرتُ الفجرَ في هذا الرهانْ
فأريجُ الإقحوانْ
سوفَ يحكي للزمانْ
كم ضئيلاً ناحلاً كان الشراعْ
صادق الألوانِ من نزفي ووديْ
كم عتيَّاً كانَ إعصارُ الصراعْ
غادراً والكونُ ضدِّي
قد كفى مجداً بأنْ كان التحدِّي
بيننا نِدّاً لِنِدِّ