دمشق وبغداد حاليا في رأس قائمة أسوأ المدن للعيش في العالم نتيجة الاستعمار، لكنهما والتاريخ يشهد كانتا أرقى وأجمل مدن العالم…
• تكرّس الجهل والتخلف على العالم العربي إبان الحكم العثماني حتى قيل: “أهم مأثرة للحكم العثماني هي اختراع الخازوق”
يبدو لي أن الأمر يدخل في إطار الحرب البسيكولوجية انطلاقا من أن الساديين “الذين يتلذذون بتعذيب الآخرين” يُسعدون حين يشعرون بتأثيرهم على الضحايا ويحولونهم إلى مازوخيين “الذين يرتاحون لتعذيب الذات” وبالتالي يسهلون عملية استسلامهم، ونماذج القوائم تهدف إلى أن يشعر المقصودون بالمهانة وأن قدرهم أن يكونوا في أسفل سافلين…ومن المؤسف بالفعل أن قسما غير قليل من مواطني الشعوب المغلوبة على أمرها لا يفكرون بتحليل واقعهم، أو يعجزون نتيجة الجهل، وبالتالي يتعايشون مع هذا الواقع المرير دون أن يسعوا إلى تغييره، وكأنما هو قدر سماوي، ويعالجون نفسيا هذا الواقع بإعادته إلى الحظ والقدر، ، لكن الأنكى من ذلك كله هو اللجوء إلى الفعل المبني للمجهول في تقييم نكباتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فحين نقول كُسر الزجاجُ نجعل المفعول به شبيها بالفاعل، ونعطيه حتى حركة الضم، لأننا لا نعرف من الذي كسر الزجاج، فالزجاج عمليا لا يمكن أن يكسر نفسه بنفسه، وكثيرا ما يلجأ الناس وخاصة البسطاء للتعبير عن أمر مكروه أو مخيف بصياغة مجهولة حتى أن بعضهم لا يذكر اسم مرض السرطان فيقول أن قريبه مصاب “بذاك المرض” ، ويبدو الأمر مذهلا حين يتم استخدام الأفعال المبنية للمجهول ومشتقاتها في الحديث عن مصائر الشعوب، فيقال في أغلب الأحيان: “الشعب مقموع” حسنا ولكن من قمعه؟ ، أو “الشعب مُستغَل” ولكن هناك من استغله، وخاصة “الشعب مُستعمَر”! أل يعني ذلك أن هناك من استعمره، بل وعيَّن السلطات فيه في المراكز العليا بحيث تستنكر وتدين أي تحرك شعبي مقاوم للاحتلال!
أصل إلى جوهر ما أود طرحه، وهو انتشار التقييمات التي تقوم بها مؤسسات غربية لها تأثيرها المرصود سياسيا في الواقع، حيث تقدم بين حين وآخر قائمة بأسماء عواصم دول العالم مرتبة حسب مكانتها الراقية، وأفضلية العيش فيها، ويبدو الأمر وكأن هناك لوحا مكتوبا في الغيب حدد أفضلية هذا المدن، لكن الأمر يحتاج فقط إلى قليل من التروي والتفكير، خاصة حين تطرح المؤسسات الغربية الأسباب التي جعلت هذه المدينة متقدمة جدا وعلى رأس قائمة أفضل المدن في العالم، وما الذي جعل هذه المدينة أو تلك في ذيل القائمة كأسوأ مدن العالم.
ويُعتمد في هذه القوائم عادة مقاييس رئيسية: انتشار الثقافة، والرعاية الصحية، والتعليم والبنية التحتية، والقدرة الشرائية ومستوى الرفاهية عموما، وبالتالي تحتل الدرجة الأولى وفق هذه المقاييس المدن الاسكندنافية، وخاصة فيينا في النمسا، وكوبنهاغن في الدانيمارك، وزيوريخ في سويسرا، وفانكوفر في كندا وفرانكفورت في ألمانيا، وأمستردام في هولندا، إلخ… وبالطبع يشار إلى أن سبب تحقيق الرفاهية في هذه المدن يعود إلى الاستقرار، والحرية والديمقراطية، وكأنها هبة من الله وليست نتيجة عوامل اقتصادية وسياسية عديدة جعلت هذه البلدان بمنأى عن الصراعات الخارجية والداخلية، وكونها جميعها في جوقة المنشدين المادحين للسياسة الأمريكية كذيل تابع فقد حتى استقلاليته. لا بد من التنويه بأن فيينا نفسها كانت تعيش حالة من الفوضى والحروب بتناوب المسيطرين من الشعوب المجاورة في حين كانت دمشق وبغداد في أوج ازدهارهما.
ننتقل إلى أسوأ المدن في هذه القوائم- وهنا مربط الفرس- لنرى أن أسوأها على الإطلاق في معظم هذه القوائم مدينتا دمشق وبغداد ،… وتوضح القائمة أن ذلك نتيجة أن هذه الدول ابتُليت “هكذا مبني للمجهول” بالاضطرابات الاجتماعية، وتنامى الإرهاب فيها “هكذا تنامى وحده كالأغصان!!!”، وفُقدت فيهما شروط الحياة الكريمة “أيضا مبني للمجهول- فُقدت”، طبعا القوائم لا تستخدم تحديدا الأفعال المبنية للمجهول، ولكنها تضع الأسباب بهذه الصياغة والمحتوى واحد: “نتيجة الاضطرابات والإرهاب والصراع والجهل ألخ…” نعم نتيجة كذا وكذا، ولكن ما هي الأسباب؟
الأسباب تحديدا تكمن في أن الدول الاستعمارية بعد زوال مفهوم الاستعمار الفعلي من العقلية البشرية منذ النصف الثاني من القرن العشرين “ما عدا إسرائيل الدولة الاستعمارية الوحيدة التي تدعمها دول الاستعمار التقليدي حتى الآن” هي التي أثارت الصراعات وموّلت الإرهاب، وأطاحت بالقوة بالأنظمة التي لا تروق لها، وغذَّت الصراعات الطائفية لكي تتمزق هذه البلاد، وتبقى هي المسيطرة على مقدرات هذه الدول، وهذه حقيقة واقعية حتى من خلال احتلال العراق وأجزاء من سوريا، ودعم القوى الانفصالية وحمايتها ومدها بالسلاح، سواء في شمال العراق، أو في أواسط وشرق سوريا…
بعض القوائم جعلت من دمشق أسوأ مدينة للعيش في العالم، وقوائم أخرى جعلت بغداد أسوأ مدينة للعيش في العالم، ولكن التاريخ لن يُكتب بحبر المحتلين، وستغير الشعوب هذا الواقع الذي فرضه الاستعمار، ويكفي أن نذكر بعض ما اشتهرت به دمشق وبغداد على مر القرون، وأنا لا أتحدث عن التاريخ المعاصر حتى لا يتخيل البعض أنني أقصد مناصرة هذا النظام الوطني أو ذاك، بل استنطق بعض العبارات التاريخية ليس إلا، إذ يقول ياقوت الحموي في معجمه: “لم توصف الجنة بشيء إلا وفي دمشق مثله”، ما يدل على جمال دمشق ونموها الاقتصادي، وهذان أمران لا يتكرسان إلا في مدينة متقدمة حضارية، ويعتبر ابن بطوطة دمشق “أفضل جميع البلدان حسنا وتقدما”. ومن أشهر القصص المتداولة عن واقعة حقيقية في دمشق أن المسافرين للحج من المناطق البعيدة كانوا حين يمرون في دمشق، يضعون ما يحملونه من مال او مصاغ أمانة عند أي تاجر حتى دون أن يعرفوه، لأنهم واثقون من سريان الأمانة، وهذا لا يمكن أن يحدث دون استقرار وعيش رغيد، “وحدث أن مرَّ تاجر في طريقه إلى الحج وأودع صرة حمراء فيها ثلاثة آلاف درهم عند أحد التجار، وحين عاد مرَّ وطلب أمانته، فاستفسر التاجر عن الأمانة وشكلها وما فيها، فذكر الغريب أنها صرة حمراء فيها ثلاثة آلاف درهم، فاستأذنه التاجر الدمشقي وعاد بعد حين، وأعطاه صرة حمراء فيها ثلاثة ألاف درهم، وبعد أن سار بضعة أمتار شاهد الدكان الذي أودع فيها أمانته فتذكر، ودهش، وسأل التاجر الثاني عن أمانته فمد يده إلى درج عتيق، وأخرج صرة حمراء فيها ثلاثة آلاف درهم من الفضة، وحين عادا إلى التاجر الأول قال لهما: “نعم لم يضع عندي شيء، ولكني خشيت أن يسافر مكسور الخاطر، ويقول في بلده ليس هناك أمان في دمشق”… لكن مرحلة مريرة مرت على دمشق وبغداد أيام الحكم العثماني، محتلٌّ جاهل متخلف كان بديهيا أن ينشر التخلف والجهل، إلى جانب القمع السادي حتى قيل في وصف منجزاته: أن “أهم مآثر الحكم العثماني الجائر المتخلف هو اختراع الخازوق”.
أما عن بغداد التي كانت المدينة الأكثر عراقة على مر القرون، مدينة العلم والحضارة، فيقول عنها معظم المؤرخين بمن فيهم ياقوت الحموي “انها جنة الأرض ومدينة السلام … ومجمع المحاسن والطيبات” … وقد سيطرت بغداد بجبروتها وعلمها وحضارتها وتفوقها واقعيا كما يقال على مشارق الأرض ومغاربها، وكانت إشعاع نور وحضارة، وفيها أرقى معالم رغد العيش، حيث كانت بغداد -قبل غزو المغول والتتار والعثمانيين- محج طلبة العلم، وزاد عدد الكتب في مكتبتها عن مليون كتاب بخط اليد، ووصفت بأنها المدينة التي لا يجوع فيها فقير ولا يظلم فيها ضعيف، في حين عاشت أوروبا قرابة ألف عام في عصور الظلام، لهذا أنا واثق أن السنوات العجاف في تاريخ العرب ستمرُّ سراعا، ويستعيد الشعب العربي أمجاده، ويكفي أن أشير إلى عبارة باتت كنقش على جبين التاريخ حول حال بغداد التي كانت أعظم مدينة في العالم حين خاطب هارون الرشيد سحابة عابرة قائلا: “أمطري حيث شئت، فسوف يأتيني خراجك!”