باريس باسترناك طريق لاكتشاف العالم

باريس باسترناك طريق لاكتشاف العالم

مجلة المعرفة السورية

ولد باريس باسترناك عام 1880 في ضاحية بيريديلكينا (1) قرب موسكو، وكان والده (ليونيد) أكاديميا في مجال الفنون التشكيلية، وقد ترعرع في اسرة محبة للفن والثقافة، وأولع منذ فتوته بالفن حيث مارس الرسم منذ الطفولة ومن ثم الموسيقا، الا انه غادرها بعد عام 1909 الى المجال الفلسفي والتاريخي في جامعة موسكو، ولا يلبث بعد – 1912 – ان يسافر الى المانيا لتوطيد معارفه.

يبدأ باسترناك بالنشر منذ عام 1913 وتصدر اولى مجموعاته (توأمان في السحاب) عام 1914 وتبدو في نتاجاته الاولى تأثيرات من معاصريه وخاصة بلوك … الا ان ماياكوفسكي كان دوما الاقرب اليه فنيا خاصة من حيث بنية الصورة والتي يركز عليها باسترناك حتى تغدو ذات سمات خاصة لديه. ورغم أن باسترناك يعد في تلك الفترة من المستقبليين الا انه لم ينسجم مع اطروحات معاداة السلف بل على العكس بدت في قصائده كثيرا من معطيات الشعر الروسي الفلسفي الكلاسيكي الوجداني للقرن التاسع العشر ويتابع باسترناك تعميق خصائصه الاسلوبية بالنسبة للصورة الاستعارية والموسيقا ولعل ريلكه (الشاعر الألماني) هو من أقرب الشعراء الأوربيين الى البنية الفنية عند باسترناك.

و شخصية باسترناك ذاتها لها طبيعتها المتميزة فهو أقرب الى الانطوائية وله طريقته الخاصة المفاجئة في الحديث والنطق (مد الحروف) وهو مولع بالتكثيف المعمق كالومض الذي قد يصعب التقاطه مباشرة لكنه يترك تأثيره لفترة طويلة من الزمن (2) ويبدو أن هناك علاقة خفية بين المكون النفسي للشاعر وملامحه الفنية ، وقد اظهرت اعماله الشعرية منذ خطواته الاولى موهبة خاصة في البناء المتميز للتعبير الشعري، ولا بد للقارئ من التمهل والحذر حتى يستطيع التعود على شعره الذي كان مليئا بالاستعارات والمجاز. والتشابيه عنده مأخوذة من عالمه الداخلي في معظم الأحيان، وملتقطة من زاوية غير متوقعة، وكثيرا ما يندفع القارئ الى الحيرة والارتباك في الانقطاعات المفاجئة مما جعله صعبا على القراءة والفهم، وكأنما كان باسترناك في قصائده المبكرة مستعجلا بحيث لم يرصد تيار الظواهر والرؤى مما يدفعه الى هذه الانقطاعات المتعجلة، ما يفقدها روابطها المنطقية تاركا للقارئ التخمين) (3) وقد يتعامل مع اللغة ذاتها على أساس مغاير للتسلسل القواعدي، وكانه يتحدث عن شيء مدرك أساسا من القارئ اذ يلجأ الى تجاوز التسمية، او الاشارة الى المادة المعتمدة بحيث يختفي المبتدأ، او المسند تماما كما في قصيدته (ذكرى دیمون) اذ يستخدم فيها بطل احدى بوئيمات ليرمونتوف دون أي اشارة اليه حتى من خلال الضمير، كما سعى دائما الى الغوص نحو اعماق التأثير الوجداني بحثا عن فطرية مطلقة، أو لمحاولة جس جذور الحالة المشاعرية، ومن هنا يبدو وكأنه يفتح الطريق امام القارئ ثم يتركه باحثا امام اللانهاية وامام ذاته تقول الشاعرة تسفيتايفا عن هذه الخاصية لدى باسترناك (..باسترناك لا ينضب حتى ان أي شيء في يده يتحد معها ويمضي من يده نحو اللانهاية، باسترناك مجرد دعوة لطريق، حيث يكتشف الانسان فيه نفسه والعالم ..) (4)

والواقع ان عالم الصورة عند باسترناك غير مسور حتى بالتعابير النقدية التي حاولت النفاذ اليه، واذا كان ثمة ضياع للخيوط العامة في اللوحة الشمولية للعمل فذلك لان باسترناك نفسه يتنقل عبر المواضيع ويخشى أن يأسره موضوع واحد وللاقتراب من صور باسترناك لابد من المرور عبر جسور الحالة الشاعرية، عبر تلك الخطوات الحساسة الاولى عندها يدرك المرء فقط مدى الموهبة في تخلق عالم الصورة (الجزئية) التي يختفي خلفها فنان ماهر يحاول محاورة الاشياء بمنطق جديد تماما، فالصورة تتوالد من عمق الحالة وليس رسما لها كما ان هذه الحالة تملك خصوصيتها التعبيرية، وغالبا ما تجافي المتعارف عليه في مثيلها فإحساسه بالهواء الساخن في غابة صنوبر يولد لديه هذه اللقطة المدهشة (كانت الغابة مفعمة بالتألق المكدود كما لو أنها تحت ملاقط الساعاتي) ولعلنا نستطيع أن نلحق طبيعة التصوير لديه في تلك المرحلة (وحتى الثلاثينات) بالانطباعية، أما تلاحق الصور وتنقلها من عوالم الى أخرى فهو انتقال غير مشروط لكنه من النوع الذي يخترق ذاته نحو نقيضه أحيانا محافظا على صدمات الانتقال ذاتها كحلقات واصلة، او كما يقول فيكتور شكلوفسكي (تندفع الصور ولا تستطيع ان تستقر كالنوابض الفولاذية تغير بعضها على بعض مثل عربات قطار اوقف سيره على حين غره..) (5) فالرؤى الداخلية عن العالم الموضوعي هي مخبر باسترناك الفني ولذا نراه لا يقيم وزنا لعلاقات الشبه الخارجية، ويحاول أن يرصد الحالة بمعطياتها المشاعرية بالنسبة اليه هو.. ورغم وجود بعض الملامح الاستقبالية في بنية بعض تصويراته لكنها تظل في هذا وذاك (باسترناكية).. (تنهمر حديقة الحلم بالجعلان الربيعية، الغربان شبيهة بالإجاص المحروق في غيهب الضباب البري، المدخنة فوق السطح بومه، طاحونة الهواء نحيلة تبدو عظامها الشفافة، الهواء منتف بالصراخ..) وأكثر الصور قربا من روحه ترميزاً لجوهره هي الشمعة التي تتبدى في أكثر من قصيدة (معي.. مع شمعتي تتعلق متوازية عوالم متفتحة، هذه الاطر المفاجئة في عالم الصورة وفي بنيتها الاستعارية ملكت شعر باسترناك خاصية الانطباع في الروح والذاكرة وقد نوه العديد من الشعراء والمثقفين عن ذلك في مذكراتهم حتى ان ماياكوفسكي اتخذ احدى رباعيات باسترناك مقياسا للعبقرية في مقالته كيف نضع الشعر (يجب ان تكون العلاقة مع الابيات كالعلاقة مع النساء كما في رباعية باسترناك العبقرية) (6) من جهة ثانية نجد ان باسترناك يحاول التوحد مع الكون والطبيعة فمواده التصويرية تحاول أن تلبس الطبيعة بكل مظاهرها الحية والعبور منها حتى عبر الحب نحو منشأ الكون وكأنه يحاول ان يتوحد مع الزمن ايضا ، والحب لديه شيء غير مادي حتي يستهجن تماما ان يكون محددا بتسمية (انت على حق كلمة حب لفظة سخيفة ، سأفكر بتسمية أخرى) ولهذا يرى أن حب الشاعر امر اخر لابد وان يغير حتى موازين الكون كله:

شيء مذهل يا حبيبتي عندما يحب الشاعر

إله طريد يعشق

وتعود الفوضى الى العالم

كما لو ان الارض تعود الى

العصور المنقرضة (7)

وتتبلور عمليا الملامح الفنية عند باسترناك منذ مجموعته (الحياة شقيقتي) والتي كتبت معظم قصائدها عام 1917 خاصة في مجال الانغماس في عالم الصورة المستمدة من عناصر الطبيعة (۸) ويبدو فيها تكريس المفاجئ وانقطاع التسلسل على ان اهم اعماله قبل الثلاثينات هي (العلة الشامخة، والملازم شميديت، وكذلك بوئيما 1905) وقد لاقت الاخيرة صدى واسعا، وكان أن كتب باسترناك الى مكسيم غوركي منتظرا تقييما منه لهذا العمل (لقد أرسلت لكم كتابي وربما بدو شغوفا بانتظار تقييمكم.. لم أستطع ألا أرسله لكم.. انني لا أدرى ما الذي تبقى لي من الثورة، وأين هي حقيقتها ان لم تكونوا أنتم في التاريخ الروسي) (9) والواقع ان صمت غوركي لم يكن بدافع سلبي بل امعانا منه بتقييم هذا العمل تقييما إيجابيا (عزيزي باريس ليونيدو فيتش انني لم أذكر شيئا عن مجموعتكم الشعرية (1905) لأنني لا اعتبر نفسي مقيما ذواقة بما فيه الكفاية للشعر، ولأنني واثق انكم قد مللتم من المديح الكتاب رائع انه من هذه المؤلفات التي يصعب تقييمها مباشرة بجدارة، ولكنها مما يبقى لحياة طويلة.. لا أخفي عليكم انني احسست قبل هذا المؤلف ببعض التوتر لان الاشعار السابقة كانت مليئة بشكل مبالغ به بالتصاوير، ولم تكن واضحة لي دائما.. لم يستطع تخييلي استيعاب هذه التعقيدات الصعبة، وصوركم غير المتماهية غالبا… ولكن في هذا الكتاب (1905) بدوتم أكثر اصالة مفعمة بالحماس الذي سرعان ما أثر بي كقارئ.. لا.. انه بالطبع كتاب رائع.. انه صوت شاعر حقيقي اشتراكي في أعمق وأفضل معنى لهذه الكلمة) (10).

ولا بد من الاشارة الى انه من الصعب فصل ما هو حي عن ما هو غير حي في اشعاره، ما هو انساني وما هو غير انساني لان باسترناك ينطلق في كثير من اشعاره من أرضية جمالية خاصة تعتمد على التوحيد بالكون، فهو يعتبر أن الطبيعة – وليس الانسان هي التي تنظر الى الانسان – وتتمحصه وتحسه، ولهذا كثيرا ما جعل اشياء الطبيعة تتحرك

وتتصرف ككائنات لها أيضا وجهات نظرها ورؤاها، وينطلق في ذلك ضمير المتكلم بحيث يعود على الاشياء ذاتها كنوع من الاحساس بألوهية الكون والانطلاق من ارضية (المونادا) في رؤيته حتى أن المطر يكتب شعره.. (وينهمر حتى الصباح فتنتظم التورية وهي تنقط من السطح تاركة فقاعات في القافية..) ومن هنا لاحظ النقاد أن باسترناك لم يولع بابتكار الالفاظ بل حاول الغوص نحو العلاقات الجديدة للمعاني المتشكلة خلال تقاليب التركيب في العبارة.. (لم يكن باسترناك مبتكرا للألفاظ كما كان معاصروه من الرمزيين، والمستقبليين، بل حاول أن يبتكر تلك العلاقات المجهولة بين الكلمات والتي غالبا ما تكون عادية تماما والتي تكون احيانا من ينابيع متباينة..) (11). ومن هنا نجح باسترناك بتكريس عالم خاص به من الرؤى يخفي خلفية فلسفية جمالية ولا يحدد الشعر في مجال وحيد، حيث يرى أن الشعر.. (منتشر في كل العشب، وتحت الاقدام ويكفي أن ينحني المرء كي يراه وينتقيه من الارض) وهو يتطير ويخشى أن يدوس الكون خلف السياج، مثل هذه المشاعر المعبر عنها بالرؤى نجدها في كثير من أعماله وخاصة (الاورال)، و(فوق ظهر السفينة)، (الاورال لأول مرة)، (عصافير الستريجي) وفي معظم أشعاره حتى الثلاثينات حيث تتجاوز الاشياء والموجودات عبر رؤاها هي، فيتبدى قاموسه مليئا بالغابات، وزهور الكتان، بالثلوج والتلال وهي (متلاصقة مدونة لصالح ارسالية جولة في عالم الرؤى..) (12)

الخاصية الثانية الرئيسية في شعر باسترناك هي الموسيقى وبشكل خاص السياق اللفظي للحروف في الكلمة والعبارة، أي أن الارتكاز الموسيقي اللفظي متمحور بالدرجة الرئيسية حول الجناس الذي يفرعه باسترناك بمهارة فائقة حتى أن هندسية خاصة تبدو بين اسطره بشكل غير مباشر تعطي خاصية لها نكتها المميزة لقراءة شعره ايقاعيا فمن حرف رنان يتردد بعد بضعة حروف مشنشنة الى حرف جامد يكون جسرا لإيقاع مواز، ولا شك اننا لن نستطيع في الترجمة إعطاء الملامح الحقيقية لهذه الخاصية وانما سنحاول تقريبيا أن ندلل على ذلك (سارق الخيل خلف السور احتمى، والعنب تغطى بحمام الشمس) وتلفظ على الشكل التالي (زابورم کرالسا کانغراد ، زاغارم کریلسا فينيغراد) اننا نلاحظ تجانسا تلاحقيا للألفاظ وفق دفق داخلي (1=1 2=2 3=3، بالنسبة للحرف الصوتي ، بو = غا، ريـ = را را = را) انها محاولة لتقديم حركية معبرة بالتوازي مع الصور المعطاة مما يكرس عناصر تثبتها في الذاكرة الامر الذي نلاحظه مثلا في اشعار، بلزاك وكل ذلك لقناعاته أن العلاقات اللغوية يجب أن تترابط في انعكاساتها الصوتية مع الصور المادية المرسومة، كما في مطلع قصيدة الربيع الذي يجري التركيز فيها على الرنين الصوتي (نيسان حديقة، ابريل.. بارك) اي الاستفادة من التجاور وليس الترابط الدلالي. وأحيانا يبدو الجناس غير مبرر تماما، الا أنه يبقى غير دخيل أيضا بل منتزعا من الجو العام، وليس صدفة أن يعطي باسترناك من سني حياته في الشباب للموسيقا والفلسفة قبل ان يختط الشعر طريقا حتى ان الناقد سبليفا نوفسكي ينوه باحدى اهم الخصائص في شعر باسترناك فيرى انها تكمن (في الثقافة الموسيقية والتنويع في الايقاعات والمهارة السيمفونية.. مهارة بناء القصيدة كلها كعمل موسيقي تام محققة ومطورة منطلقها بكل الامكانيات الفنية للوسائل الشعرية) (13)

ورغم ميل العديد من النقاد الى اعتبار مجموعة الولادة الثانية بدءا لتوجه جديد أقرب الى البساطة والوضوح الا ان حقيقة الأمر انها كانت مجرد ارهاص فقد ظلت معظم نتاجاته في الثلاثينات تحمل الخواص ذاتها وبدا التوجه النوعي الجديد عمليا منذ الأربعينات، وهذا ما يؤكده باسترناك بالذات، على اننا نلاحظ بشكل عام ميلا واضحا للعزلة والابتعاد عن الكتابات الاجتماعية والسياسية بل من الصعوبة بمكان أن نجد قصيدة مكرسة لموضوع الثورة البلشفية، أو الموضوعات الكثيرة المتفرعة عنها، فكيف كان باسترناك ينظر الى الحياة، يرى سينيافسكي ان (المنبع الأساسي للشعر عند باسترناك هو الحياة نفسها فالشاعر في أحسن الأحوال هو المشارك فيها وهو المساعد على خلقها والذي يتبقى له ان يحدق جيدا ويندهش ويجمع القوافي الجاهزة في الدفتر المعد لذلك..) (14) على أننا نعتقد أن هذا الرأي لا ينطبق على نتاج باسترناك عموما بل يقاربه قليلا في نتاج ما بعد الاربعينات، كما أن الشق الثاني من هذا الرأي والمتعلق بالأسلوب الفني فيه الكثير من الاجحاف وتبسيط التجربة الفنية الغنية التي كان باسترناك بحق واحدا من أعظم المهرة في خلقها وصناعتها، ولم تكن (قوافٍ جاهزة، او دفترا معدا لذلك) بل كانت معاناة حقيقية في التمازج مع الطبيعة والكون.. والواقع أن باسترناك قد لاقى رفضا حادا وقبولا رائعا بآن معا حيث نظر اليه بعض النقاد كنحات صعب المراس بعيد عن دفوق القلب والروح كما في مقالة أ. بيريدرييف (قراءة للشعراء الروس) والتي رد عليها الناقد سيرغي سيدوروف منافحا ومؤكدا على الدور الكبير الذي لعبه باسترناك في القصيدة الروسية وعدم جحوده الارث البوشكيني كما تخيل بيريدرييف. (15) هذا وقد ساهم باسترناك في بعض الكتابات الوطنية اثناء الحرب الوطنية العظمى، وغنى مآثر الشعب وازداد قربا من الناس والحياة فازداد وضوحا وبساطة، وخرج بشكل واسع من بقايا التأثيرات الموديرنية واسار التعقيدات التصويرية.

ويكتب باسترناك في بداية الخمسينات روايته الشهيرة الدكتور جيفاكو والتي اختلفت الآراء حولها وأدانتها أقلام كثيرة واعتبرت جائزة نوبل التي قرر منحها له هذه الرواية عام 1958 تكريسا من الاجهزة الامبريالية للتوجهات السلبية في توجهاتها وامكانية تفسيرها كإدانة للمجتمع الاشتراكي.

وظل باسترناك حتى أواخر ايام حياته يعيش في ضاحية (بيريديلكينا) مولعا بالطبيعة وأجوائها، وكان بحق كما قال عنه غوركي (مستقلا استقلالا كاملا انه الانسان الذي ولد ويموت محافظا على وجهه الخاص) (16)

 

 

صليب ثقيل

ان أحب الآخرين – صليب ثقيل

ولكن انت بلا عيبه

وسر روعتك

معادل لانكشاف الحياة

حفیف الحلم يسمع ربيعا

وخشخشة المفاجآت والحقائق

أنت من جوهر هذي الأصول

وكنهك بريء كالهواء

من السهولة بمكان أن نستيقظ

وتعود إلينا البصيرة

ان ننفض عن القلب

الأقذار اللغوية

وان يحيا الانسان دون هذه الشوائب

كل هذا، مكر صغير                                     ۱۹۳۱

 

 

ما هو الشعر

هو الصفير المتكثف حتى يتماهى كتلة

هو فرقعة قطع الثلج حين نضغطها

هو كل ما تبحث عنه الليالي

هو التنافس بين البلابل

هو حبوب البازلاء الحلوة المجموعة

هو دموع الكون في حزوز الفاصولياء

حاملة النوتة، والمزمار، والفيكارو

منهمرة برداً على حقيل

هو كل ما تبحث عنه الليالي

في اماكن العوم العميقة.. في القاع

وجلبها لنجمة هناك الى حوض الأسماك

على راحتيها الراجفتين، الرطبتين

هو انحباس الهواء، كرقائق الدفوف في الماء

هو جسد السماء حين تنحني مائلة كشجر الحور

عندما يطيب لنجومها ان تضحك

لكن الكون كله.. مكان أصم لا يجيد السماع                                     ۱۹۱۷

 

احجية

مر من هنا ظفر سري لأحجية

الوقت متأخر

اولى ان انام عميقا من ان اقرا الضوء وافهمه

وقبل الاستيقاظ

انا مؤهل ان المس حبيبتي

كما لا يمكن لأحد آخر ابدا

كيف لمستك..

حتى بنحاس شفاهي لمستك هكذا

 

كما تلامس التراجيديا الصالة

القبلة كانت كالصيف

أبطأت، وأبطأت

فيما بعد فقط.. لعلع الرعد

نهلت كالطير، وأطلت حتى فقدت الوعي

وتسربت النجوم عبر الحنجرة

الى حلقي

هكذا تنخطف عيون البلابل حتى البياض

من الارتعاش

وهي ترشف قبلة السماء الليلية

قطرة، قطرة                          ۱۹۱۸

 

المطر

انها معي فدندن

واسكب، واضحك، ومزق الغيهب

أغرق، وارشح عبارة مصدره

الى حب يشبهك

وتشرنق بالحرير التوتي، وارتطم بالنافذة

تدثر، وتشعث ملتفاً ما دام العتم لم

يسيطر تماما..

ها قد بدا النهار في أوجه

كالليل، والمطر الغزير مشط له

خذه عن الحصى، مبللا في كل شيء، وتابع

بالأشجار كلها، في العيون، والفودين

والياسمين

المجد لك، أيها العتم المصري..

ها هم يضحكون، تلاطموا، سجدوا

وفاحت فجأة روائح الانعتاق من آلاف المشافي

الآن نركض للقطاف (6)

كالأنين المنبعث من مائة قيثارة

و (سین کاتارد) الحدائقي مغسول بالغيهب الزيزفوني

 

الأورال البكر

في الغيهب

دون قابلة، او ذاكره

كانت قلعة الأورال تستند على الليل

متلمسة بيدها

صاحت بقوة وسقطت مغمىً عليها

وعبر عذابات مذهلة، ولدت الصباح

وتدحرجت محدثة فرقعة متصادمة بشكل عفوي

أشياء وبرونزات هائلة نادرة

ولهات قطار، في مكان بعيد ما..

وهوت بتأثير ذلك مائلة أطياف الشجر

بواقد الغابات

وكان منثورا ـ دون شك – للمعامل والجبال:

كان الفجر المشجر مثل تأثير اقراص المنوم

بالوحش الخرافي الشرير

وبسارق ماهر مثل الأفيون

لسامر الطريق

وصحا الآسيويون في النار

وهبوط الى الغابات على الزحافات

من الشفق المتورد

لعقوا النعال، وداسوا الى الصنوبر التيجان

ونادوها الى مملكة التتويج

اما الصنوبرات،

فقد نهضت تحمي درجات ترقي الملوك

ماضية فوق قشرة الجليد كغطاء

موشى بالمخمل البرتقالي، والحرير

المطرز، والتوشيه                                 1915

 

 

عصافير الستريجي

لا قوة ابدأ لعصافير الستريجي المسائية

كي توقف البرودة الزرقاء

التي انفلتت من صدرها الصاخبة

وراحت تنسكب حيث لا يمكن ايقافها

ليس لدى عصافير الستريجي المسائية

اي شيء في الأعالي يعيق هتافها المنتصر:

ايتها المهابه

انظروا الأرض هربت

تخرج الرطوبة الثرثارة

كماء يغلي في دورق

كنُبيع ابيض

انظروا.. انظروا.. لا مكان للأرض

من طرف السماء حتى الهاوية            1915

 

 

بستان الحلم

مثل قدر برونزي مليء بالسخام

يتغطى بستان الحلم بالجعلان

معي مع شمعتي بشكل متواز

تتعلق عوالم متفتحة

ادخل في هذا الليل

كدخولي في دين بكر

حيث الحور الرمادي المتهدل

يحجب الدرب القمري

حيث البركة مثل سر متماه

حيث يهمس اضطراب شذى التفاح

حيث البستان معلق بوتد

ويسند السماء امامه            1912

 

 

الشهرة

ليس الأمر جميلاً إن كنت شهيرا

ليس هذا ما يرفع نحو المجد

لا ضرورة لملىء الأرشيف

والإرتجاف فوق المخطوطات

غابة الإبداع، شيء معطى بذاته

وليس ضجيجا أو نجاحا

ومعيبا أن تكون علماً على شفاه الجميع

حين أنت نفسك لا تعني شيئا

يجب العيش دون ادعاء هكذا لكي تجتذب لنفسك – في النهاية –

حب المسافات لك

كي نستمع إلى نداء المستقبل

لا بد من هجر الفراغ

في القدر لا في الأوراق

حدد امكنة وفصول الحياة

في الحقول ذاتها

انغمس في الإنقمار

واخف فيه خطـاك

كما تختفي الأرض في الضباب

عندما لا يرى منها شيئا في الظلام

سيعبر الآخرون في طريقك

بأثرك الحي

شبراً وراء شبر

ولكن عليك انت

أن لا تميز الهزيمة من النصر

وعليك ان لا تهرب من نفسك مثقال ذرّة

بل ان تكون حباً.. حباً

وفقط حباً تكون حتى النهاية        1956

 

شتويات

فتح الباب، وانساب

الهواء من الساحة بخاراً

عبر المطبخ

وكل شيء غدا قديما خلال لحظه

كما في الطفولة، في تلك العشيات

طقس جاف وهادئ

وفي الشارع على بعد خمس خطوات

يقف فصل الشتاء حييا عند المدخل

متردداً في الدخول

الشتاء.. وكل شيء من جديد لأول مره

وإلى أبعاد كانون الثاني المشيبه

تخرج الصفصافات كالعميان

دون عصي او مرشد

والنهر في الجليد وفيه ايضا

شجرة السفرجل المتجمده

وانتصبت قبة السماء السوداء

متقاطعة بشكل عرضي على صفحة الجليد العاري

کمرآة على مسندها

وامامها عند تقاطع لم يمتلئ بالجليد تماما

انتصبت بتولا وقد انغرست نجمة في شعرها

تتأمل السطح الزجاجي للسماء

إنها ترتاب سراً

فلعل الشتاء طافحة بالأعاجيب

كما لا يمكن ان نتصور

هناك في بيت ريفي قاص

كما هو الأمر عندها في الأعالي                 1944

 

الجوهر

في كل شيء أود الوصول إلى الجوهر

في العمل، في البحث عن الطريق

في الغموض القلبي

إلى جوهر ما مر من ايام واسبابها

إلى الأصول.. إلى الجذور

إلى النواة

وان أفكر ملتقطاً خيط الأقدار والحوادث

وان أحس، أحب وابتدع شيئا جديدا

آه لو أنى أستطيع

أن احتوي الجزء فقط

لكتبت ثمانية أسطر

عن ماهية الولع

عن الأعمال غير القانونية عن

عن الآثام

عن الركض عن التقفي

عن الصدف، والعمل السريع

عن المرافق، والراحات

وكنت دبّجت قانونها.. وبدايتها

ورددت اسماءها.. ورموز حروفها

ولكنت نسقت الأشعار كالحديقة

بكل ارتجاف عروقي واعصابي

ولأزهر الزيزفون فيها بالتتابع

وكنت عبأت بالأشعار تنفس الزهر

تنفس النعناع

وعبأتها بالمروج

ونبات القصب

عبأتها بمواسم الحصاد

والزوابع الهادرة

هكذا عبأ شوبان معجزته الحية

هكذا عبا موسيقاه بالحدائق، والأدغال

فالمهابة المنشودة

عذاب وفرح

إنها وتر مشدود

على القوس الصلب                  1956

 

بلا عنوان

عفيفة محتشمة في هذا الوجود

انت الآن نار واحتراق

دعيني آخذ جمالك

في مهجع قصيدة معتم

انظري كيف تلظى الوكر

تلظت أطراف الجدران

وحوافي النافذة بوهج القنديل

وكذلك ظلالنا وقاماتنا

على الأريكة تجلسين

وتضمين ساقيك تحتك على الطريقة التركيه

وسيان في الضوء او في العتم

فانت تناقشين بطريقة طفولية

وتنهمكين ساهمة تداعبين حفنة من الخرز

منزلقة في السلك

على ثوبك

محياك والغ في الحزن

وحديثك واضح لا تصنع فيه

انت على حق.. كلمة حب، لفظة سخيفه

سأفكر بتسمية أخرى

من اجلك إذا أردت سأغير

تسمية العالم وكل الكلمات

ترى أيعطي مظهرك الجهم

کنه معدن إحساساتك

الا تلمع رقائق القلب سراً

فلماذا تسربلين عينيك بالحزن اذن؟              1956

 

 

الحواشي:

  1. زرت هذه المنطقة في العام الماضي حيث يحتفظ بالبيت الريفي الذي عاش فيه باسترناك والمؤلف من طابقين وبستان جميل واسع اقيم قربه منتجع للأدباء.
  2. من أحاديث لي مع بعض من عرفوا باسترناك شخصيا من الادباء المعمرين.
  3. من مقدمة مختارات باسترناك نيقولاي نانيكوف، موسكو 1982 ص 5 .
  4. مارينا تسفيتايفا، الملحمية والغنائية في روسيا المعاصرة، ماياكوفسكي وباسترناك، مجلة الآداب الجورجية رقم 9، 1967.
  5. من مقدمة مختارات باسترناك السابق ص 6.
  6. مایاکوفسكي مجلد 5 ص 477. ويقصد رباعية باسترناك (ماريوكا).
  7. منتخبات باسترناك دار الكاتب السوفييتي، لينينغراد 1965 ص 22 .
  8. لم تصدر هذه المجموعة الا في عام 1922.
  9. الارث الادبي المجلد 70 (غوركي والكتاب السوفييت) موسكو 1963، ص 309.
  10. المرجع السابق ص 300.
  11. ليديا غينزبورغ (الأشعار الغنائية) دار الكاتب السوفيتي لينينغراد 1974 ص 350.
  12. نيقولاي اسييف، مذكرات الشاعر، دار الامواج المضطربة، لينينغراد 1929 ص 134.
  13. النقد الأدبي السوفيتي موسكو – دار التنوير 1981 ص 361.
  14. أ. سينافسكي، مقدمة لمجموعة باسترناك (قصائد وبوئيمات) دار الكاتب السوفييتي موسكو لينينغراد 1965 ص 22.
  15. راجع مقالة سيدوروف، باسترناك وناقده في كتاب، على الطريق نحو التركيب دار المعاصر موسكو 1979 ص 303،304.
  16. الارث الادبي مجلد 70، غوركي والكتاب السوفييت ص 309.