أيمن أبو الشعر.. بين ساحتين

أيمن أبو الشعر.. بين ساحتين

علي العقباني

الكتابة في فن السيرة وفن المذكرات، أو السير الذاتية للشخص ذاته، أو أحد قريب، من أخطر فنون الأدب وأجملها، وأكثرها مشقة وتعباً، وخصوصية وكشفاً، لا مجال للذهاب نحو تلفيق مصطنع، أو حوادث غير موجودة، أو كذب عن التاريخ والأشخاص، خصوصاً إن كان صاحب السيرة ما زال ينعم بالحياة قريباً منا، عمل ثقافي ومعرفي وإنساني محفوف بالمخاطرة والمغامرة، لجهة قرب التوثيق وأصحابه، والأسماء التي سترد في المذكرات، ودخول العاطفة معادلاً قريباً للذاكرة والعلاقات، خصوصاً إن كان السارد صديقاً حميماً للمسرود عنه، يعرف تفاصيله، وحياته، وطفولته، ومجاهل حياته الخاصة والعامة، نحتا معاً بصمات الحياة على حجارة الزمن كبنائيين كنعانيين يصارعان الوجود بالحب والبقاء والذاكرة، لكنها في المآل الثاني تبدو لنا نحن القراء مجالاً خصباً للتعرف عن قرب، على تفاصيل حياتية وإنسانية وثقافية وتاريخية أيضاً، في مسارات شاعر أو يحتفى به في السيرة، وهذا مجال أدبي مهم لجهة مقاربة النص بالحياة التي عاشها الأديب، وتشعباتها وتقلباتها منذ الطفولة حتى اليوم.
في سنوات الصبا والشباب والجو العام الذي كان يسم البلاد في تلك الفترة، كنا نلهث وراء الشعر والشعراء والسينما والفنون عامة أينما كانت، وكان لأسماء معينة بريق خاطف وحاضر بقوة في أوساط الشباب، وكان الشباب في تلك الفترة يتابعون أمسيات الشاعر أيمن أبو الشعر هنا وهناك: في مدرج الجامعة، والمركز الثقافي الروسي، وغيرهما، منفرداً أو مع ثلة من الشعراء الآخرين، وتكاد مدرجات المسارح في ذاك الحين لا تتسع للكم الغفير من الناس بملابسهم المميزة وشعاراتهم البراقة، وكان مجرد الحضور، ولو على الأدراج والممرات، يتابع فيه المرء صوتاً أدبياً حار الرؤى، يعد عملاً ثقافياً نهضوياً بامتياز، ذلك كله يندغم بما تأتى من الشعر والموضوعات والحضور الطاغي، مشكلاً ظاهرة أو علامة فارقة في ذلك الزمن، وكانت أشرطة الكاسيت تحمل الصوت الذي يسمعه الشباب شعراً، وأغاني وطنية وأمسيات خاصة في تلك الفترة، تلك مرحلة ولَّت مهزومة ومتعبة وخائرة القوى، وتلتها جملة تغيرات تكاد تذهب بالشعر والأدب والفنون والتلقي إلى مجاهيل ساحقة، لا تكاد تُسمع أو ترى في زحمة الحياة والبحث عن العيش.
في كتاب جديد ل د. راتب سكر الشاعر والقاص والناقد والأستاذ الجامعي عن صديقه، حمل عنوان « أيمن أبو الشعر بين روزا لوكسمبورغ وساحة العاصي»، وجاء في 111 صفحة، وصدر في شهر تشرين الأول 2022، عن دار جهات للنشر والتوزيع، عودة حميمة إلى حياة خاصة تقارب فيها الاثنان وتعايشا والتقيا مع صحب كبير على تخوم العاصي ونواعير الهوى والفن والشعر، فكانت علاقة صداقة امتدت حتى اليوم مشبعة بالصدق والجمال والإنسانية، جمعت روحين من شعر وارف بالحب والوفاء تلاقتا رؤى ومحبة فكانتا تفاصيل حياة وروح، تفاصيل ويوميات وأسماء كتاب وشعراء وأدباء كانوا حاضرين هنا أو هناك، شكلت علامات فارقة في المسيرة الشعرية والحياتية والفكرية بين التأثر والتأثير والتعلم والمفارقة… وفي المكان الآخر من الكتاب نحن أمام دراسة تهدف إلى تسليط الضوء على حياة الشاعر أيمن أبو الشعر وكتاباته الشعرية منذ مجموعاته: «خواطر من الشرق» 1971، «صندوق الدنيا» 1972، «بطاقات تبرير للحب الضائع» 1974، «طلقات شعرية» 1977، «الحب في طريق المجرة» 1978، «الصدى» 1979» التي ألهبت حياة ومخيلة الشباب وحماستهم وأحلامهم، وأعماله القصصية والمسرحية التالية «رجل الثلج، الملك والشاعر، محاكمة المواطن، رسائل عشق، الأرنب الذئبي وغيرها»، وترجماته من وإلى اللغة الروسية، وقد نحصي لأبو الشعر عشرين مؤلفاً في مجالات الشعر والمسرح والدراسات والترجمة، وقد ترجمت مختارات من أشعاره إلى عدد من اللغات الحية بما في ذلك اللغة الروسية التي صدر له بها مجموعة شعرية بعنوان «صوت الحياة»، وقد جعله كل ذلك في مكانة مميزة وخاصة بين شعراء جيله في الربع الأخير من القرن العشرين.
يأخذنا الكتاب في فصله الأول نحو سيرة الشاعر والأساتذة والمعلمين من البيت بما فيه من عوالم خاصة بالأدب وتطلعاته، والأم والأصدقاء والتوجهات العامة وصولاً إلى المدرسة والقراءة والمعرفة، وخوض غمار الحياة ومعتركها في السفر والمعارك والعلاقات والصراعات، ومن تأثر بهم من الشعراء ومصادر ثقافته ومعرفته.
وبين طيات الكتاب يعرفنا الدكتور راتب سكر عن قرب بالمرحلة التي عاشها الشاعر أيمن أبو الشعر في مدينة حماة، من خلال خدمته العسكرية هناك بعد أن أنهى دراسته الجامعية، وفي ربوع حماه وعاصيها ونواعيرها ومثقفيها عاش أبو الشعر سنوات صاخبة من الصداقات والحياة، فاتسعت دائرة الحياة والصداقات والمشاركات الشعرية المتعددة مع شعراء، منهم: وجيه البارودي وسعيد قندقجي، وأمسيات صاخبة لاقت قبولاً من متابعين ورفضاً من آخرين، وكذلك يعرفنا د.راتب سكر بالصداقة القوية التي
جمعت الشاعر أيمن أبو الشعر وأستاذه في ثانوية «الشرق الخاصة»،الشاعر محمد الحريري عندما كان تلميذاً في الصف الأول الثانوي.
حفل الكتاب بمقدمة خاصة بقلم الروائي د.حسن حميد «صاحب المنجز الروائي والنقدي المهم، أطل من خلالها على الكتاب وعوالم الكاتبين الصديقين: و»هنا أقبض على لحظة محبة نادرة، وهي عادة بعيدة ونائية، وهي عادة عصية وغامضة، وهي عادة تحتاج إلى تعريف لكثرة مجاهليها»، بكل هذه المحبة التي ترافق صفحات الكتاب، يضيف حميد في مكان آخر من المقدمة: «إنَّ المحبة التي عُرف بها د. راتب سكر هي الروح التي تشيع في صفحات هذا الكتاب، فلا شيء مكتوب هنا بغير المحبة، ولا شيء يبدو في هذا الكتاب سوى هذه الشاعرية الفخيمة التي حملت د. أيمن أبو الشعر على راحتيها طوعاً، منذ مطالع قصيدته الأولى…».
معرفة تفاصيل العلاقات التي يحتويها كتاب «أيمن أبو الشعر بين روزا لوكسمبورغ وساحة العاصي» لسارده وكاتبه د. راتب سكر، لا مجال هنا لذكرها مكوناتها جميعاً، أو التعليق عليها بالتفصيل، ففي ذلك محاولة قتل الرغبة في قراءة هذا الكتاب الممتع في ثناياه الإنسانية والوجدانية، ودلالات العلاقات التي تبنى بين البشر، وتكون محطات حياة مثمرة بالحب والتعاون والإنجاز، سأمضي تاركاً لكم اكتشاف العلاقة الواردة بين الاسمين في العنوان والمتن، في كل فصل من فصول هذا الكتاب، كتاب هو أكثر من سيرة حياة كاتب وعلاقته بشخص أو مكان أو تجربة، إنه تجربة حياة ثرية بتجاربها وحيويتها وعلاقاتها وإبداعها الذي جعل من تلك الحياة عوالم غنية ومثمرة على الدوام.

أيمن أبو الشعر.. بين ساحتين