سنرى بنور إبداعك أيها الرائع

سنرى بنور إبداعك أيها الرائع

 

حول رواية سأرى بعينيك يا حبيبي “لرشاد أبو شاور”

 

بقلم د. أيمن أبو الشعر

  • هذه ملحمة إنسانية رائعة بظلال شاعرية بالغة الرهافة، وبصياغة روائية فائقة الإتقان
  • لماذا لا تدرس هذه الرواية في كليات الشريعة كحافز روحي لمنع التطرف والتزمت البغيض الذي يحول الشباب إلى زومبي
  • الصراع ما زال مستمرا بين التخلف والمسار الحضاري والرواية منصة ساطعة لكشف حيثيات هذا الصراع ومخاطر انتصار التخلف

 

يقدم لنا الروائي الفلسطيني الكبير رشاد أبو شاور مكثفا لأهم ملامح المعاناة المرهقة المستمرة منذ قرون، والتي ستستمر ربما لقرون قادمة طالما بقيت عقلية التخلف، ومخلفات أسوأ العادات البدوية التي تنهش في كنه معظم مجتمعاتنا العربية التي لا تزال عملية الانتقال فيها من الطابع البدوي إلى الريفي ثم المدني مستمرة كولادة قيصرية، إلى جانب تحذيره الواجف من مخاطر التطرف الديني، ويأتي كل ذلك بسبك روائي موغل في عمق حياتنا الاجتماعية ، وبقلم معلم ماهر حاذق يعرف جيدا ما يريد قوله، وكيف يجب أن يقال حتى في بعض التفاصيل الصغيرة التي تنم عن دراية عميقه بحيثيات الموضوع الذي يتناوله.

تدور أحداث الرواية في فترة زمنية تقارب خمسة وثلاثين عاما نهايات القرن الفائت، وربما تمتد من حيث المحتوى، ونمط العلاقات إلى مرحلتنا الحالية، وحتى المستقبل، لتبرز مسار حياة جيل يرحل، وجيل يتابع مساره على حبل مشدود بين عادات الماضي المتخلف والحاضر الذي يغذ السير بخطى سريعة نحو المستقبل غير آبه بالمشاعر المرحلية وظروفها. ورغم أن الرواية توحي بأجواء الأردن الذي يعيش فيه الكاتب إلا أنها تنطبق على معظم بلداننا العربية.

اسرتان من دم واحد وانتماء بدوي واحد مع تباين في مجمل تطلعاتهما،  أبو حسن وأبو صخر الأخوان المختلفان طباعا ومخططاتٍ  تنعكس ظروفهما مع تباين مطامحهما على أولادهما سلبا وإيجابا، يبدأ هذا المسار بالتصاعد منذ ولادة البنت نجمة حيث يتم تقرير مصيرها بقراءة الفاتحة لتكون لابن عمها صخر، ويلفت النظر أن رشاد استطاع تطوير المحاور الرئيسية ببراعة في مسار حياة وحوارات أبطاله، ورسم مصائرهم بحيث يبدو أن معظم الأبطال هم أبطال رئيسون تقريبا وخاصة في فترات الحديث عنهم، ويبدو مسارهم محوريا إلى حد كبير كل في حينه ووفق اهتماماته، وإن كانت نجمة تخضع لمصيرها في البداية ثم تثور على هذه التقاليد بعد حين طويل وتقرر الخلاص من زيجة مرفوضة فإنها تظل بطلة إيجابية من خلال تحملها الذي يشبه المأثرة، فإن سلمى وزينب ظلتا بطلتين إيجابيتين منذ البداية وطيلة مسار الرواية، وتتطور مسارات حياتهما وفق هذا المجال الإيجابي بعيدا عن التخلف، زينب المدرسة وسلمى التي تغدو صيدلانية، وتبقى نجمة محور مجمل الأحداث وتطوراتها،  ثم تظهر بقوة وطفاء لتحتل دور البطلة الرئيسية والفادية في تحديها لسطوة الذكورة، وتدفع الثمن بمحاولة قتلها، ثم برمي أحد المتطرفين “ماء النار” على وجهها… ويظل البطل السلبي مهيمنا على أجواء الرواية، وهو صخر زوج نجمة، وهو الزوج العاقر الذي يتهم زوجته بالعقم، ويدمر سني حياتها إلى أن تخلعه وتتحرر، فيما يلتجئ نتيجة عقدته هذه إلى التطرف الديني… لن أروي التفاصيل بالطبع لكي أترك لكم هذه المتعة الهائلة التي شعرت بها وأنا أقرأ هذه الرواية خلال ثلثة أيام متتالية دون أن أستطيع فكاكا من أسرها. ولكن لا بد من الإشارة إلى أمور هامة:

قراءة الرواية تتم حتى باللاشعور على مستويين بآن معا:

  • المستوى الواقعي المباشر الذي يتم عبر رسم الشخصيات وحواراتها والصراع الضاري بين العلاقات المتخلفة التي تحاول بشراسة وقف التطور الحضاري، والعلاقات الإنسانية المتطورة في إطار تسلسل الأحداث نفسها، وعرض طبيعة هذه العلاقات اليومية السائدة، وتناحرها مع العلاقات الجديدة.
  • والمستوى الآخر رمزي يحمل بصمات قراءة التاريخ بعيون فاحصة ناقدة، واستشراف المستقبل بعيون محذرة حكيمة، ويتم كل ذلك بريشة خبير له حضوره المميز، وقدرة عالية على الجذب في مسار بالغ الرهافة.

يتم ذلك عبر عملية التصاعد التي تعتمد على “توترات” صراعية صغيرة بين الشخصيات حيث الظروف تترابط بسبك عجيب في هرم تصاعدي أكبر يتنامى أحيانا إلى درجة تدفعك إلى حبس الأنفاس ثم تعطيك فسحة للتأمل، وهي لفتة معلم ماهر لكيلا يرهق قراءه، وفي الوقت نفسه لكي يبقوا مع تسلسل الرواية وتصاعد عقدتها عبر حبكاتها الصغيرة المتلاحقة، بمعنى أنها نسيج متقن من كل هذه الخيوط في لحمة هذا العمل النوعي بل والفريد من حيث الأسلوب الفني، فالعلم الوطني الرائع مثلا يتكرس في وعينا، وننسى أنه في الواقع خيوط متقنة الحبك والألوان، نعم الرمز يبقى في أعماقنا وننسى خيوط حامله القماشي، أو حروفه الكتابية، لكن رشاد استطاع وضعنا أمام ما يشبه الشريط لفلم سينمائي حياتي يجري ليس أمامنا بل حولنا بأبعاد ثلاثة، ونشعر أننا مشاركون بهذا الشكل أو ذاك بأحداثه وتطورها

يستخدم رشاد أبو شاور ما كان يستخدمه  دوستويفسكي العملاق في اختيار أسماء بعض أبطاله المحوريين بحيث تعبر عن محتوى الشخصية ومسار حياتها، ويبدو ذلك جليا في اسم صخر بمعانيه السلبية، فالشاب صخر صلد، جاف، متخلف، متشنج، غيور، متسلط، لا يلين للأنس كاسمه، وهو فاشل في دراسته، وعاقر في حياته الزوجية كالصخر تماما لا يمكن أن ينبت زرع فوقه… وسعيد أخوه مرح، حبور، يحب الطرائف والفرح والسعادة، ووطفاء تعني كثافة الحاجبين والهدبين، وهي تعني أيضا الديمة المعطاءة، وكانت وطفاء في الرواية معطاءة حقا حتى بتدريسها للطلاب الجامعيين وتحديها ودفع الثمن…  ونجمة واضحة جلية نقية ساطعة كنجمة الصبح، وكانت كذلك في الرواية هادئة غير صاخبة متحملة غير يائسة!

حين يشتد الصراع وتتكشف حقيقة صخر العاقر الكاذب الذي تستر بالدين فصار متطرفا يؤذي من حوله، بل وحتى أقاربه، يوضح رشاد أبو شاور أن الأمر لا يقتصر على صخر بل على نمط تفكير منتشر، وجماعات تعيش بين ظهرانينا بكل عُقدِها وتخلفها، ويبدأ الجناح المقابل بمحاولات  الدفاع عن النفس!!!؟ لماذا الدفاع عن النفس وليس القضاء على الخصم الذي يعامل هذا الطرف كعدو، هنا تظهر الرمزية غير المعلنة “دود الخل منه وفيه”: صخر ليس عدوا خارجيا إنه زوج نجمة وابن عمها، وبالتالي قريب للعائلة التي يقع عليها الظلم، فكيف يمكن التخلص منه، لو قام رشاد بجعل أحد الأبطال الإيجابيين يقوم بالإبلاغ عنه لأراح القارئ وأثلج صدره، ولكنه سيكون بذلك قد جافى الواقع، والروائي “الواقعي” لا يجوز له أن يجافي الواقع، بل لا بد من كشف عيوب هذا الواقع بصدق لكي يتم التغلب عليها، وبذلك يحقق رسالته الرئيسية. يبدو ذلك بسطوع حين يحاول صخر قتل شقيقته وطفاء، ويعتبرها كافرة فاجرة ولكن يتم إنقاذها، وحين يسألونها: من الفاعل؟ تصمت، وحين يكررون السؤال، تقول لهم أنها لا تعرف…. برافو رشاد الرائع هكذا يتصرف الروائي الكبير… وأشير إلى أمر بالغ الحساسية حتى في البناء الروائي “الدرامي” فحين يقوم أحد أنصار صخر الذي أصبح عالة وخطرا على المجتمع برشق وطفاء بماء النار على وجهها (لأنها عصته، وتابعت دراستها الجامعية) قفز قلبي إلى حنجرتي: كيف سيتصرف رشاد ” الروائي المعلم” في هذا المنعطف الخطير؟ كان يمكن حتى وفق التصاعد الدرامي والبناء الروائي ببساطة أن يجعلها تفقد بصرها، وتغدو عبارة “سأرى بعينيك يا حبيبي” ذات وقع شاعري هائل رومانسي جارح! ولكن رشاد أبا شاور كان أكبر من توقعات قارئه… أنا أدرك هذه الحيرة، ولعلي أقول أنني أتوقع أن الأمر كان كذلك بالفعل في البداية: ربما جعلها المشهد المحتمل بتسارعه تفقد البصر، ثم تدخل رشاد الكاتب الحكيم… وأنقذ بطلته من العمى، وأبقى للعبارة رونقها بخشية الحبيب على نظر محبوبته…لا أدري هل صحيح يا أخي رشاد ما أقوله ألم يخطر ببالك ولو لحين في البداية أن تجعلها تفقد بصرها، ولكنك غيرت النتيجة، ألم تنقذها حقا؟!!! لماذا أركز على هذه المفارقة، لأن رشاد يقدم لوحة حياتية تمسنا جميعا ونحن أصدقاء وأقارب ومعارف لأبطالها، ونحن نخوض الصراع أيضا، ولو فقدت وطفاء بصرها (ولم ينقذها الكاتب) لكانت كارثة تشير إلى أن من يقاوم هذا المد المتخلف الرجعي سيكون مصيره الموت، أو العاهة الدائمة!

هنا بالذات يبرز أمر آخر بالغ الأهمية وهو: لماذا أبقى رشاد أبو شاور صخرا بلا عقاب أو حساب، لأن الصراع لم يحسم في الواقع فلماذا يحسمه في الرواية ويجافي حقائق الواقع، هناك عقليتان تتصارعان عقلية صخر الذي يرى في الجامعة ” فسوقا وفي الاختلاط كفرا” (صفحة 122) والعقلية المعاكسة التي تشجع وطفاء على متابعة تعليمها والحصول على الدكتوراة، والملفت للنظر أن رشاد لا يجعل الطرف الآخر الذي يعاديه صخر وأمثاله من المتطرفين، لا يجعله في نقيض فكري أو كجماعة متحللة اجتماعيا، الطرف الآخر كالغالبية العظمى من مجتمعاتنا أناس مؤمنون طيبون، بل ويؤدون الصلوات والفروض، فسعيد الذي يعارض تشدد أخاه لا ينسى فروضه الدينية، بل إن عصاما شقيق نجمة عندما يقصد إمام المسجد لا ينسى أن يصلي ركعتين تحية للمسجد  (صفحة 169)، في حين أن صخرا الذي يمثل واقعيا عقلية داعش يرفض حتى الإمام ويحتقره ويقول له: “لا تمر علي ألاعيب أمثالك من شيوخ الدولة الذين يقبضون رواتبهم ويضللون عباد الله ويشغلونهم عن الجهاد بالأموال والأنفس لدرء الأذى عن الإسلام” (صفحة 175)، وحتى بعد رشق وطفاء بماء النار كعقوبة لها من المتطرفين – ومثل هذه الحوادث كثيرة للأسف في مجتمعاتنا- يظهر من يهدد وطفاء يوم مناقشة أطروحتها لعله مدرس ومجموعة من الطلبة بهذه العقلية، فيعاودون التهديد والوعيد “لا يليق بك أن تأتي إلى الجامعة حاسرة الرأس… وبعد كل ما جرى لك… ألا ترعوين…” (صفحة 300)… وهكذا فإن رشاد لا يكتب ليسلينا ويقدم لنا ما يشبه “الأكشن” أو الألعاب الرائجة حاليا رغم المتعة الثقافية التي يحصل عليها القارئ، بل لكي يرشق وجوهنا بماء بارد صقيعي علنا نصحو قبل أن يقتحم هؤلاء كل حياتنا، أراد أن يقول هؤلاء موجودون بقوة في حياتنا وبين ظهرانينا بل وفي معظم الأحيان هم من أهلنا ولابد من حل.

أشير أيضا إلى أمرين في تقديم هذه الإضاءة، وهما استخدام لغة فصحى موشاة بالعامية لتقريب النص والحوار من ذهنية القارئ بما في ذلك استخدام الكلمات الدارجة وأسماء الأشياء والأدوات بلفظها الشعبي: كالطابون “الفرن البيتي الذي يصنع فيه الخبز”، وكرَج “بمعنى مضى”، وتعذبل بمعنى “تعوذ”، والأمثال والعبارات الشعبية الشائعة من مثل البطن بستان “للدلالة على اختلاف طباع الأخوة من بطن واحد كالبستان الذي بنبت الأشواك والأزهار”، والعادات والتقاليد البدوية والريفية في مسار تطورها كقراءة الفاتحة لربط البنت الوليدة بابن عمها وهي بعد في أقماطها، وتكحيل الوليدة، وحناء العروس،  وكدفن حبل السرة والمشيمة وتجسيد الانتماء للأرض (ما يذكر بالأم الفلسطينية التي اخترقت شاشات العالم وهي تتمسك بضريح ابنها في المقبرة اليوسفية)،  وكأنما أطلت الرؤى المستقبلية لعنجهية المحتل في خيال رشاد أبي شاور فسجل هذه العبارة الموقف “هنا في هذه الأرض لنا لحم وعظام…” ( صفحة 13).

إنني أقترح على الجهات المسؤولة والمؤسسات العلمية المعنية إدراج هذه الرواية في مناهج التعليم، وخاصة كلية الشريعة لأنها بكل بساطة رواية تحذر الجميع كي ينتبهوا لعدوهم الحقيقي: التطرف! والتخلف! ومن داعش الذي قد ينشأ في بيوتنا ونحن في غفلة عما يبث هؤلاء الدعاة المتطرفون من أفكار مريضة في عقول أبنائنا، ويحولونهم إلى وحوش وزومبي! أصافحك بحرارة أخي رشاد أشهد أنك قد بلَّغت!