كما كانت قاعات دمشق ومدرجاتها تضيق بجمهور شعره في فترة السبعينيات، وهو الشاعر الذي عرفته المنابر مميزاً ومحبوباً وقد لمع نجمه في سماء دمشق حينها، ضاقت قاعة المركز الثقافي في أبو رمانة مؤخراً بجمهور كبير مازال يردّد قصائده التي حصدت شهرة واسعة، وهو الذي اعتاد -على الرغم من إقامته في روسيا منذ سنوات طويلة- أن يحطّ رحاله بين وقت وآخر في دمشق التي وقّع فيها “القمر المغرور” وهي مجموعة شعرية للأطفال و”مختارات من الأدب الروسي” وهما صادرتان عن الهيئة العامة السورية للكتاب، و”اعترافات عاشق” وهي مجموعة قصصية قصيرة صادرة عن دار الينابيع للنشر، وذلك على هامش الندوة التي أقامها ثقافي أبو رمانة بالتعاون مع الهيئة العامة للكتاب، وشارك فيها د. عادل فريجات والأديب رشاد أبو شاور وأدارها الشاعر قحطان بيرقدار الذي بيّن في تصريحه لـ”البعث” أن أيمن أبو شعر من الأسماء المهمّة في عالم الشعر، وهو من جيل الرواد الطليعيين الذين آمنوا بمبادئ وأهداف وقضايا انعكست على تجربتهم الشعرية، فكان أبو شعر من الذين يقرنون القول بالفعل. وكرئيس تحرير لمجلة “أسامة” بيَّن بيرقدار أن لأبو شعر الفضل في رفد الأدب العربي بإصدارات مهمّة للطفل من خلال ترجمته عن الأدب الروسي للعديد من الأعمال الموجّهة للطفل.
حرفة السرد
وتحدث د. عادل فريجات عن أبو شعر الشاعر وهو يبدع صنعة الشعر، مجرّباً حرفة السرد من خلال مجموعتيه “اعترافات عاشق” و”العذاب الشهي”. وأشار إلى أنه فعل فعلة أبو شعر ذات يوم حين ترك صنعة التحليل والتأويل للآثار الفنية ولجأ إلى حرفة السرد، وأصدر مجموعتين قصصيتين، مبيناً أن غواية السرد قد لا تقاوَم أحياناً لأن كل منا سارد في برهةٍ من بره الحياة، ولا بأس في ذلك برأيه، فأبواب الخلق الأدبي مشرّعة أمام الجميع، وخاصةً أمام كل من يأنس في ذاته هوى التجريب ومتعة الإبداع، منوهاً بأن ما فعله أبو شعر فعله شعراء آخرون كتبوا السرد إلى جانب الشعر، منهم شوقي البغدادي، ممدوح عدوان، عيسى درويش، نسيب عريضة، سميح القاسم، فيكتور هوغو وشكسبير، مشيراً إلى أنه لو أحصى انتماء مفردات هذه المجموعة القصصية إلى آفاقها الأعلى لوجد أن مفردات الحب والعشق والغرام والوله هي الأكثر شيوعاً، كما لو أن الكاتب خلص للتوّ من قراءة كتاب “طوق الحمامة” لابن حزم، أو “مصارع العشاق” لأبي جعفر السراج، أو “ترجمان الأشواق” لابن عربي، لحرارة التجربة وصفاء الروح ورهافة المشاعر وفيض العشق والقدرة على الصياغة، وكل ذلك مكّن قصص المجموعة –برأيه- من أن تبلغ بكثير من عناوينها غاية القصة في الإرضاء الجمالي للمتلقي، والذي تحقق من خلال عناصر جمالية كثيرة، أهمها جمال اللغة التي تمّت فيها صياغة القصص وهي لغة متقنة، والتي تمّ فيها استثمار طاقات قد لا يتفطن لها كل الناس كما في حوار القصة 49 حين التقى شاب مشاكس بامرأة باذخة الجمال في المصعد عند الطابق الرابع، موضحاً أن القاص أبو شعر استمد بعض قصصه من الحياة والطبيعة وذكرياته وثقافته الأدبية، وكانت بعض تقنيات كتابته تقوم على الشروع في القصة مع بداية محذوفة، وهذا تقليد جاذب أشاد به القاص المصري يحيى حقي، إلى جانب اعتماده أيضاً على أسلوب السخرية واستخدامه لعناوين شديدة الجذب والتأثير، مع قيامه أحياناً بترك الحكائية في القصة لجهة التفسير والشرح مثل قصص”الابتسامة” و”ما هو الحب”، وكأنه يريد منا أن نتأمل بالمعنى المجرد مستبدلاً التأمل بمتعة الحكاية. يقول أبو شعر في نصه “ما هو الحب”: “إن الحب مطلقٌ في الكنه، وكل المبالغات في وصفه مجرد مقاربة للتعبير عنه، فهو الذي يختصر كهرباء البروق في رعشة لمسة ويضمّ آفاق المدى في نظرة”.
الكتابة بالضماد
وعبَّر رشاد أبو شاور في كلمته التي قرأها الأديب د. حسن حميد عن سعادته بوجود أيمن أبو شعر في دمشق، وهو الشاعر الذي يحملُ ياسمين الشام وعبق المدينة وسحرها، والتي ما فارقت قلبه وقد رفع بياض ياسمينها راية عالية في موسكو مكوّناً معادلاً موضوعياً لبياض ثلج تلك البلاد، مشيراً إلى أبو شعر المحب للشعر وصوره وبلاغته وجمالياته النادرة وهو المدمن على قراءة الروايات والقصص، والذي يعيشُ في بلاد عمالقة الرواية والقصة القصيرة، حاملاً عشقه للفن والأدب ومعبّراً عنه من خلال إبداعه الجديد “القصة القصيرة” والومضة، فكتب مئة نص في مجموعته القصصية بروح الشاعر العاشق لبلاده، والذي يدقّ قلبه لفلسطين مثلما يدق في قلب كل سوري، مؤكداً أن ما أبدعه أبو شعر من قصص يعيدنا إلى مقولة الأدب هو الأدب أياً كان جنسه، ولأن الأدب من دون الجمال والبهرة الإبداعية ليس أدباً كان الخيال والواقع في قصصه حاضرين ببساطة في تداخل عجيب من خلال يدين غارقتين بصنعة الأدب. وأوضح أبو شاور أن أبو شعر قدّم في مجموعاته القصصية “اعترافات عاشق” و”العذاب الشهي” قصصاً تجنحُ للخيال ولكن جذورها واقعية متعلقة بالإنسان وما يصبو إليه وما يكافح من أجله وما يُسعد روحه، فكانت قصصاً لم تُكتب لملء الفراغ والسلوى وإنما جاءت قصصاً تنبض بحبه وشوقه وعشقه لوطنه وتعبّر عن دوره كشاعر وأديب وإنسان يميّز بين الحق والباطل والجمال والقبح، معترفاً أن ما لفت انتباهه قدرة أبو شعر على كتابة قصة قصيرة جداً ممتلئة بالأدب وجماله، وهذا برأيه ليس غريباً عليه، فهو الشاعر الذي يعرف معاني اقتصاد اللغة وجماليات الإيحاء في التكثيف والبلاغة، وهي كثافة جمالية لا يقوى عليها سوى أهل الإبداع، مشيراً إلى واحدة من قصصه القصيرة جداً وحملت عنوان “الكتابة بالضماد”، فهي أشبه بصرخة وجدان تنبّه إلى دور المثقف في هذه الفترة التي مرّت بها الحرب على سورية، وقد تحدث فيها أبو شعر بلغة المجاز والواقع معاً.
وفي ختام الندوة ألقى أبو شعر بعضاً من قصائده وقصصه، إضافة إلى غناء قصيدة من قصائده بصوت لارا هابراسو، ألحان الموسيقي وليم حسن الذي عزفها على العود.
أمينة عباس